وحدهم أمازيغ الشمال الإفريقي تجاوزوا عقبات اللاوحدة. ليس لأنهم يلوحون بعلم الهوية المشتركة فقط، فالأصل في الامتداد التاريخي والجغرافي الذي يجمعهم من المغرب الأقصى إلى آخر نقطة في السلوم الليبية أنه لم يكن يعترف بحواجز الحدود، حتى إن فتح الأندلس تم على يد قائد أمازيغي اسمه طارق بن زياد. لا أحد في المنطقة المغاربية يستيقظ فجأة ويسأل كيف يجب أن يتعايش العرب والأمازيغ. فالانصهار الذي تحقق عبر قرون وأجيال أضفى على الهوية المشتركة أبعادا تمتزج فيها الحضارات وتتمدد في آفاق عربية وإسلامية وأمازيغية وإفريقية وأندلسية. عندما تأسس المغرب العربي في نهاية تسعينات القرن الماضي، تنبه مثقفون أمازيغ إلى أن الاسم يحمل في ذاته نوعاً من التشنج، ليس أبعده أنه يلغي المكونات الأمازيغية من الدمج في مشروع كبير ذي أهمية إستراتيجية . لذلك فقد تنادوا إلى فكرة الاتحاد المغاربي التي تحيل على مرجعية ذلك الانصهار من دون شوفينية عصبية. لم تمت فكرة الاتحاد المغاربي، بل اصبح مجرد الاتفاق على موعد محدد لالتئام القمة المغاربية رهانا كبيرا في ضوء المعوقات المحيطة. وليس مستغربا أن في كل مرة تنبعث فيها الآمال تبرز دعوات واستقراءات حول أسبقيات المشروع. هل يبدأ من الاقتصاد في شكل سوق مغاربية مشتركة على غرار السوق الأوروبية أم يتحول إلى منظومة دفاعية في مواجهة التحديات الأمنية؟ أم يركز على الوفاق السياسي مدخلا تتفرع عنه فصول الاقتصاد والتجارة ورفع الحواجز الجمركية أمام تدفق الأشخاص والرساميل؟ الأقرب إلى البناء المغاربي أنه من دون روافد شعبية تدفع في اتجاه تعزيز التعاون والانفتاح والتفاعل، يبقى مشروعاً ينزل بمظلات من فوق. وليس كل ما يصدر من أعلى يصادف الميول الشعبية في حال لم تكن هناك إرادة مشتركة تلتقي عند الحسم في الخيارات المصيرية. وإنها لمفارقة أن تكون الفكرة المغاربية سطعت عبر فاعليات ثقافية وحقوقية وسياسية، لكنها لم تتبلور بعد في مشروعات قابلة للحياة. فيما كان المثقفون العرب منشغلين بهاجس الالتزامات القومية، كان نظراؤهم في الشمال الإفريقي وضعوا اللبنة لتأسيس اتحاد كتاب المغرب المغربي للدلالة على انخراطهم في المشروع الوحدوي. كذلك شكل المحامون اتحادا مغاربيا كان منتسبوه يتصدون لقمع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ومثلهم صمد اتحاد المركزيات النقابية المغاربية تيمنا بالانتفاضة التاريخية ضد اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد. لولا أن تداعيات سلبية عصفت بكل تلك التنظيمات التي كان يفترض أن يستمر حملها للمشعل المغاربي لإضاءة الطريق. لم تتأخر الفاعليات الحزبية بدورها عن ترديد مقولة الوحدة المغاربية. ومن مؤتمر طنجة الذي ضم الأحزاب المتنفذة في كل من تونسوالجزائر والمغرب عام 1958، لم تتوان النخب الحزبية في تسويق هذا الخيار الاستراتيجي، بدافع الغيرة والتضامن ومواجهة المخاطر. فلماذا تعثر مشروع بهذا الزخم المشجع على المستويات كافة؟ ولماذا تراجعت الآمال التي بشر بها قادة مغاربيون سابقون شعوبهم، كما الأحلام القابلة للتصديق؟. يقدم الأمازيغيون في الشمال الإفريقي نموذجا أقرب إلى الاستيعاب والواقعية. فعبر تنظيماتهم المختلفة يلتقون ويتحاورون، لا فرق بين أمازيغ أو قبائل الجزائر أو بربر ليبيا. وإذا كان صحيحا أن ولاء الهوية يعزز هذا التوجه الذي يرتقي فوق الخلافات السياسية القائمة بين دول المنطقة فإن الوحدة مكون أساسي في الهوية الأمازيغية ينسحب على آفاق المنطقة برمتها. والثابت أن من يناصر وحدة الهوية لا يمكن إلأ أن يبارك ويدعم أي توجه يعاود تصحيح أخطاء السياسة. ثمة أكثر من دافع يضع الرهان المغاربي في صدارة الأولويات. هناك مناخ الثقة الذي جلبه الربيع العربي على طريق تأمين المسار الديموقراطي، كونه يروم تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والتنمية. غير أن هذه الاستحقاقات لن تكتمل في غياب تكتل إقليمي قوي تنصهر فيه إرادات شعوب المنطقة. وطالما أن أي كيان لا يمكن أن يصمد وحده أو يواجه وحده تحديات المرحلة التي تتطلب تضافر الجهود، فإن أقرب طريق لتحقيق أهداف الربيع المغاربي تكمن في اعتماد المسار المغاربي المتكامل الأطراف اقتصادياً وسياسياً وبشرياً. هناك أيضا صورة الوحدة الأمازيغية التي أبانت عن تجذر الوعي الوحدوي، فقد استطاع الأمازيغ من خلالها تأكيد أن الاعتزاز بالهوية يعزز البناء الوحدوي، عدا أن قفزهم فوق ألغام الخلافات يعكس المدى الذي يمكن أن يصل إليه التآلف والتفاهم. وبالقدر الذي بدأت المسألة الأمازيغية تفرض نفسها كلغة وثقافة وكيان بهدف معاودة الاعتبار لهذه المكونات التي همشت طويلاً، بالقدر الذي أصبح في الإمكان الارتكاز على هذه التجربة في تجاوز الصعوبات. إنصاف الأمازيغ ليس قضية ظرفية أو طارئة، ولكنه لا يتجزأ عن إنصاف المجتمع الذي تعرض إلى الإجحاف والتنكر. وكما ان الربيع العربي دفع تيارات إسلامية معتدلة إلى الواجهة، بعد أن كانت موضع حذر وتشكيك، فإن الربيع المغاربي الذي ينشد بناء اتحاد قوي ومتماسك ومتضامن لا بد أن يجد في التجربة الأمازيغية أكبر سند له في رهان إثبات الذات. يكفي الالتفات إلى ما يحدث في العمق المغاربي حتى يزيد منسوب الأمل في الأنهار التي تتدفق حيوية وثقة.