نظرات شاردة في الفراغ. أقلام متجمدّة بين الأصابع. ابتسامات ضائعة بين الخجل والدهشة. الخجل من أنفسنا التي لم يُحرّكها الفضول لاكتشاف «الآخر»، ودهشة من خيار اللجنة السويدية الذي وقع على كاتب لم تكتشفه الذائقة العربية بعد. غريب هو الشعور الذي ينتاب المثقف العربي لحظة معرفته بأنّ الفائز بالجائزة الأدبية الأهمّ والأشهر في العالم هو شخص لم يعرفه قطّ. ولكن هذه ليست المرّة الأولى التي يفوز فيها «مجهول» بجائزة نوبل للآداب! وإن كان هذا المجهول في وطنه كاتباً كبيراً، وأعماله هي الأكثر مبيعاً، وأدبه مترجم إلى الكثير من لغات العالم، فهو يبقى مجهولاً بالنسبة إلينا، نحن العرب. فهل غياب اسمه عن الترجمة العربية تُبرّر جهلنا بكاتب هو «الألمع» في بلد يزيد عدد سكانه عن المليار نسمة؟ التوقعات الغربية كانت تُشير إلى منافسة بين الياباني هاروكي موراكامي (1949) والصيني مو يان (1955)، إلاّ أنّ «ترشيحاتنا» ذهبت إلى موراكامي، ليس لموهبة أكبر يملكها وإنما لجهل معظمنا بأعمال المُنافس الآخر وأدبه. والمفارقة أنّ هذه المزاحمة أعادت الصراع الصيني- الياباني إلى الواجهة، وكان الصيني الفائز بجائزة نوبل للآداب قد أثارها في إحدى رواياته التي تحولّت إلى فيلم سينمائي شهير لزانغ ييمو بعنوان «الذرة الحمراء»، نال جوائز في أكثر من مهرجان سينمائي. قبل أن يبدأ مشواره الأدبي، انخرط غويان مويه (اسمه الحقيقي) في صفوف جيش التحرير الشعبي وهو في العشرين من عمره، ثمّ تابع دراسته في الكليّة الحربية ليحصل بعدها على رتبة ضابط. وفي العام 1981 أصدر روايته الأولى «بريق الكريستال» بتوقيع اسمه المستعار الذي رافقه حتى لحظة حصوله على «نوبل» للآداب «مو يان» (يعني من لا يتكلّم). واختار أن يستهلّ مشواره الأدبي بعمل يتكئ على سيرته الذاتية من خلال طفل شبه صامت يروي تفاصيل المأساة التي عاشها من جوع وفقر وعوز مع عائلته الفلاحة في «شاندونغ»، شمال الصين، خلال المجاعة التي اجتاحت البلاد نتيجة الخطة الاقتصادية التي وضعها ماو تسي تونغ بين عامي 1958 و1961 بغية الدفع بالصين «خطوة إلى الأمام». ويبدو أنّ طفولة مو يان هي المرحلة الأكثر تأثيراً في نفسه. فمنها استوحى اسمه الذي اختاره رفيقاً لأدبه لكونه كان طفلاً يميل بطبيعته إلى الصمت. ومن هذه الطفولة التي قضاها في منطقته الريفية كفلاّح صغير يركض بين الماشية والأشجار وشتلات الذرة، انتهل مواضيعه الأساسية التي سيطرت على الكثير من أعماله. بعدما لمع اسم مو يان وتُرجمت أعماله إلى لغات أجنبية كثيرة، اختير نائباً لرئيس اتحاد الكتّاب الصينيين. الأمر الذي جعله عرضة للاتهام لدى الكثيرين من الكتاب المنشقين، داخل الصين وخارجها. وبالرغم من فوز الصيني غاو كسينيانغ بنوبل للآداب عام 2000 وليو زياوبو بالجائزة نفسها للسلام عام 2010، إلاّ أنّ الصين رأت في فوز مواطنَيها المنشقّين استفزازاً لها، ما دفعها إلى مهاجمة الأكاديمية السويدية اكثر من مرّة. وهي لم تعترف بفوزها بالجائزة السويدية المرموقة قبل مو يان. أمّا فوز يان فمن الطبيعي أنّه راق لها إلى حدّ إجماع المؤسسة الرسمية الصينية على حسن الاختيار وعلى الاعتراف بأن «مو يان هو أول كاتب صيني حقيقي يفوز بالجائزة». ورأى بعضهم في فوز مو يان مغازلة علنية من لجنة نوبل لدولة الصين، وقد أعلنت الأكاديمية السويدية في بيانها أنّ أعمال مو «تجمع بين التراث الفلكلوري والتاريخ والمعاصرة بأسلوب واقعي يتسّم بالهلوسة». وأشارت إلى وجه شبه بين أعماله وأدب فولكنر وماركيز لما تحمله من واقعية سحرية. لا شكّ في أنّ مو يان لن يبقى مجهولاً بعد نوبل في عيون العالم العربي لأنّ دور النشر ستتكفّل بترجمة أعماله إلى العربية بعدما أضحى واحداً من أصحاب «نوبل»، لكنّ مو يان وحده لا يختصر الأدب الصيني أو الآسيوي الغزير والمهم. فهل يُمكن الفضول العربي أن يدفعنا من الآن وصاعداً إلى التعرّف على الأدب في المكان الآخر من العالم، والذي يفرض نفسه بقوة في الآداب العالمية؟ أم أنّنا سنبقى مقيدين بمقولة «الوجه الذي تعرفه خير من الوجه الذي تتعرّف عليه» بانتظار «نجيب محفوظ» آخر يخرج من بيننا ويمنحنا نشوة الفوز بالجائزة الأدبية الأشهر في العالم؟