لعل الرئيس الأميركي باراك أوباما أكثر الرؤساء الأميركيين تقديراً لمصر وما تمثله في العالمين العربي والإسلامي، ثقافياً واستراتيجياً، وهو ما تجسد في خطابه الشهير في جامعة القاهرة في حزيران (يونيو) 2009، إذ اعتبرها قلباً وقبلة لهذين العالمين، يتوجب خطابهما من على منبرها. ولعل الرجل، في المقابل، قد لمس احتفاء به، وتقديراً له من المصريين، شعباً قبل الدولة، وجمهوراً قبل المسؤولين. لذا، لم يكن سهلاً عليه أن يصرّح عقب اعتداء بعض المهووسين المصريين على مبنى السفارة الأميركية بأن مصر لم تعد حليفاً، وإن لم تصبح عدواً. حاول أوباما بعد ذلك، وعبر المتحدث الرسمي، أن يخفف من غلواء تصريحه الكاشف، غير أن رفض لجنة المخصصات المالية في مجلس النواب ضخ المعونة الإضافية التي كانت الولاياتالمتحدة قررتها لمصر دعماً للتحول الديموقراطي فيها، وقيمتها 450 مليون دولار، أتى ليؤكد المعنى الذي ذهب إليه أوباما، إذ أعلنت رئيسة اللجنة النائب الجمهوري كاي غرانغر أنها «لا ترى حاجة فورية لضخ هذا المبلغ»، بمعنى أن الوقت يبدو غير مناسب لإعطاء مصر تلك المعونة بينما يعتدي مواطنوها على سفارة بلادها. ستبذل الإدارة الأميركية جهداً جديداً لإقرار ما كان تم الاتفاق عليه، وربما أتت جهودهما ثمارها، وأعيد ضخ المبالغ المجمدة، فيما يعني أنه تم تجاوز الأزمة الطارئة (الثانية) حول الفيلم المسيء، وتداعياته التي بلغت ذروتها في العدوان على السفارة، ولكن الأمر الأكيد هو أن العلاقات بين البلدين دخلت منعطفاً جديداً يفارق تماماً ما كان قائماً قبل 25 كانون الثاني (يناير). مرحلة انتقال وعلى رغم أن مصر لا تزال أسيرة لعملية تحول ثوري وانتقال ديموقراطي، كان يفرض على الولاياتالمتحدة مزيداً من الصبر حتى تكتمل هذه العملية، ويتبدى مدى وعمق التغيير الناجم عنها، فإن الملاحظ هو سرعة توالد الأزمات بين البلدين بدءاً من أزمة الجمعيات الأهلية نهاية العام الماضي والتي استغرقت شهوراً قبل الخلاص من آثارها، وصولاً إلى الأزمة الأخيرة حول السفارة، ما يعني وجود أزمة (عميقة) تنعكس آثارها في تلك التأزمات العارضة، جوهرها البحث عن نقطة توازن جديدة لعلاقات البلدين، سواء من قبل مصر التي لم تعد قانعة بنقطة التوازن القديمة التي يرى كثيرون أنها كانت أقرب إلى التبعية منها إلى الشراكة، أو من قبل الولاياتالمتحدة التي لم تعد مطمئنة إلى شريكها الاستراتيجي في المنطقة، بل صارت قلقة على مصيره، متوثبة إلى إدراك ممكناته الجديدة، في ما بعد الزلزال الكبير. ستنتهي الأزمة العارضة (الثانية)، ما انتهت (الأولى)، لأن البلدين لم يستعدا بعد لمرحلة ما بعد الفراق أو القطيعة. وفي المقابل، ستبقى الأزمة العميقة حول رؤية مصر الجديدة لنفسها... فالمعركة الحقيقية لم تبدأ إذاً، حيث الهدف الرئيس هو دفع نقطة ارتكاز العلاقة مع أميركا باتجاه التوازن ولكن من دون الوصول إلى حال عداء معها. فإذا كانت التبعية لأميركا أمراً مهيناً لم يعد مقبولاً، فإن العداء معها يبقى أمراً لاعقلانياً طالما كان غير محتم... قد تضطر مصر إليه في وقت ما من تطورها السياسي والحضاري، في حال قررت استعادة قيادتها الاستراتيجية للجماعة العربية ضد العدوانية الإسرائيلية، وريادتها الحضارية للمشرق الإسلامي ضد الهيمنة الغربية، وفي حال وُجدت ممانعة أميركية حادة لمثل هذه التوجهات، ولكن حتى في تلك الحال فإن هذا التحول يحتاج إلى سنوات من الإعداد والاستعداد، وإلى عمليات تفكيك وإعادة بناء التحالفات، يقع في القلب منها ضرورة تنويع مصادر التسليح المصري حتى لا يتم خنق القوة العسكرية المصرية، أما الآن، قبل نضوج هذا التطور، وصوغ تحالفات قوية يستند إليها، فإن معاداة أميركا تبقى سلوكاً عبثياً. إن نقطة التوازن الجديدة التي يتطلع إلى بلوغها المصريون، إنما يتشوق إلى إدراك حدودها الأميركيون، فالذي لا شك فيه أن الولاياتالمتحدة قلقة على مستقبل حليفها، تشعر بأنها تسير في أرض غير واضحة المعالم بعد. غير أن الطرفين لن يتمكنا من بلوغ تلك النقطة إلا بعد حوار شاق، ليس في غرف مغلقة بل على أرضية الواقع ذاته، في أفق تاريخي يمتد لسنوات، ستقع فيها أزمات يتلوها تفاهمات، ثم احتكاكات يعقبها توافقات، وهكذا عبر نوع من التغذية الاسترجاعية قبل الوصول إلى نقطة التوازن المنشودة، والتي يسهل من بلوغها مدى توافر شرطين أساسيين: هاجس الناصرية الشرط الأول: سياسي - إعلامي يتمثل في قدرة الولاياتالمتحدة على خطاب الشارع السياسي المصري في ظل أجواء ما بعد 25 كانون الثاني التي صار فيها الرأي العام المصري فاعلاً حقيقياً، يمارس ضغطاً مخيفاً على الإدارة المصرية ليس فقط من مناوئي الرئيس الإخواني، بل وربما أكثر من قبل حلفائه السلفيين الذين لا يتوقفون عن المزايدة الدينية على الرئيس وحزبه، والذين ورطوا مصر فعلياً في أزمة السفارة الأخيرة. كما يتمثل في قدرة مصر على توقي أثر الصحف الكبرى والميديا الواسعة، فيما يفسره المصريون بجهد معتاد من قبل أطراف اللوبي اليهودي الذي طالما حرّض على مصر، ودعا الولاياتالمتحدة إلى استمرار فرض هيمنتها على مصر، باعتبارها أمراً موروثاً من العصر السابق. ولعل المراقب الأزمة الأخيرة سيدرك أنها بدأت إعلامية بإذاعة الفيلم المسيء على يوتيوب، فيما كانت عناصر ذات أصول إسرائيلية، وأخرى ذات توجهات صهيونية - مسيحية إنجيلية، قريبة من اليمين الأميركي المحافظ بالضرورة، تقف وراء إنتاج هذا الفيلم. والشرط الثاني تاريخي - استراتيجي يتعلق بضرورة الخلاص من هاجس الدور المصري في الحقبة الناصرية، والذي تأسس، لظروف معقدة لم تعد قائمة الآن، في مواجهة الغرب وضدية الولاياتالمتحدة لأن استمرار الهاجس التاريخي مهيمناً على الحاضر السياسي إنما يفرض قيوداً ضاغطة على المستقبل. في هذا السياق تتبدى العلاقة مع الولاياتالمتحدة وكأنها النقيض لحيوية مصر في الإقليم والعالم، ويُنظر إلى كل محاولة لاستعادة هذا الدور وكأنها إبحار في سفينة العداء للغرب وأميركا، كما كان الأمر في ستينات القرن الماضي، ولا شك في أن ذلك ليس أمراً حتمياً، لأن دور مصري فعال في الإقليم يستطيع قيادته نحو مثل الديموقراطية والتعددية في الداخل، والاستقرار والسلام في الخارج، لو وجد سنداً أميركياً، وهو أمر سينعكس بالإيجاب على شكل التفاعل الدولى، ويقلص من حجم الخشونة والتوتر الناجمين عن احتكاك قضايا الإقليم العربي بالنظام العالمي، ما يسمح باستقرار الأول، وسلمية الثاني، إذ يفرغ المنظورات الصراعية ك «صدام الحضارات» من جوهرها. أما حصار مصر فيبقى هدفاً كارثياً حتى لأميركا نفسها، إذ يُفجر أنماط غير رشيدة للقيادة العربية، ويذكي محاولات إسلامية راديكالية لتحدي الهيمنة الغربية، على ذلك النحو الذي تبدى جلياً في 11 أيلول (سبتمبر) ناهيك عما قبله وبعده، وهو أمر تؤكده حقيقة أن المتشددين الإسلاميين على الجانب المصري كانوا هم أصحاب رد الفعل الصاخب على الفيلم المسيء، وأنهم الطرف الذي ساهم في تصعيد الأزمة، على النحو الذي تصوروه رادعاً للمتشددين على الجانب الأميركي. * كاتب مصري باراك أوباما (أ ب) محمد مرسي (أ ف ب)