تصريح نائب أمير منطقة القصيم حول الورقتين البحثيتين اللتين كان مزمعاً إلقاؤهما ضمن ملتقى النادي الأدبي بالقصيم عن كل من عبدالله القصيمي وعبدالرحمن منيف، أحزنني كما أحزنتني ردود فعل القراء على الخبر كما نشر في الصحف يوم الأربعاء الماضي. هاجم الأمير فيصل بن مشعل النادي والملتقى لقبولهما بحثين حول كل من منيف والقصيمي، وبحسب الصحف، فقد قال الأمير: «ما أقدم عليه النادي الأدبي أمر غير مشرف، وخطأ فادح، فالجميع يعلم التاريخ الأسود لهاتين الشخصيتين... لقد اعترضت وبقوة ورفضت هذه الفعاليات بشكل قوي جداً... أقولها بالفم الملآن، لا يشرفني حضور مثل هذه الملتقيات التي تناقش هذين الاسمين.. أنا سلفي أولاً وأخيراً، ولا أرضى ولا أقبل بمثل هذا الطرح ... إنهما وصمة عار»، مذكراً بأنه سيقف ضد أي ناد يفكر بطرح اسميهما، وزيادة على ذلك، دعا وزارة الثقافة إلى «تقويم مسار الأندية» متهماً نادي القصيم ب«عقوق الدين والدولة». لم يكن حزني بسبب قناعات الأمير فيصل الشخصية، فذلك افتئات على حقه الفردي في أن يرى العالم بالطريقة التي تناسبه، إنما كان حزني على ضعف الحقل الثقافي في بلادي وتبعيته وغربته. تبدت ملامح الضعف والغربة عبر شكلين، الأول: إلغاء النادي للورقتين، والثاني: تعليقات القراء على الخبر أعلاه في النسخة الإلكترونية لصحيفة الوطن مثلاً. سأتناول في هذه المقالة هاتين المسألتين. في رصده لمسيرة حقلي الأدب والفن في أوروبا منذ العصر الوسيط حتى الأزمنة المعاصرة، يلاحظ عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن هذه الحقول كانت تفتقد الشرعية الذاتية في أزمنة ما قبل الحداثة، لذا تنشدها من حقلين كبيرين يملكانها ويمنحانها، إنهما حقلي الدين والسياسة، لذا كان فنانو أوروبا وأدباؤها ينضوون تحت أجنحة الأمراء ورجال الكنسية، لأن الأدب والفن لم يُنشئا حقولهما الخاصة بها بعد، ومن ثم لم يكن هناك سلطة خاصة بهذين الحقلين على «سوق» الإنتاج الخاصة بهما، وهي السلطة التي كانت ستسمح بتقرير ما هو شرعي أو عكس ذلك من النتاجات، و ما هو جيد أو رديء منها. بكلام آخر، كانت حقول السياسة والدين تمنحان الشرعية للنتاج الأدبي والفني أو تنزعانهما عنهما أمام مجتمعات كانت تكدس الشرعيات كلها في هذين الحقلين. لا يستدعي هذا التنظير بالضرورة أي استنتاجات سلبية بحق حقلي السياسة والدين، قدر ما يستدعي حقيقة تاريخية وهي أن الجسد الثقافي عموماً في المجتمعات التي لم تكمل حداثتها، أي لم تكمل تقدمها ورقيها بحسب بعض الصيغ اللغوية الشديدة الانحياز، يعاني ضعفاً يجعله تابعاً للحقول الأقوى في المجتمع من ناحية، وعرضة للهجوم المجتمعي والنبذ من ناحية أخرى. أكدت وقائع كل من هجوم الأمير على الجسد الثقافي بكلمات جارحة، وردود الفعل من النادي والقراء على هذا الهجوم سلامة تنظيرات بورديو، فالأمير وهو الحامل لأرفع شهادة أكاديمية، شنّ بتعبيرات لا لبس فيها هجوماً حاداً على العَلَمين الثقافيين القصيمي والمنيف، وعلى المؤسسات الثقافية عموماً، والقصيمي والمنيف علمان ثقافيان بغض النظر عن حكمي وحكمك أيها القارئ، إنهما كذلك بالرجوع لحقولهما الثقافية، والتي لها حق تصنيفهما. يتبدى ضعف الحقل الثقافي عموماً (فكراً وأدباً وفناً) باستسهال الهجوم عليه من مسؤول من دون تحرج، ثم برفضه رعاية الملتقى، حتى بعد إلغاء النادي للورقتين. بصراحة، لقد عومل النادي بإذلال، أما رد فعل النادي الأدبي بالقصيم فقد أكد الضعف والتبعية، فهو لم يبحث عن شخصية ثقافية مرموقة من أهل المنطقة لرعاية الاحتفالية، مثل الشيخ العلم محمد العبودي مثلاً. لماذا؟ ببساطة؛ لأن الحقل الثقافي المحلي يعجز عن منح المشروعية للأنشطة الثقافية من داخله. ولأن إلغاء البحثين من النادي بسبب رفض الأمير فيصل رعاية الملتقى مؤشر على عدم توثب هذا الجسد للاستقلالية - عفواً- عن الرغبة في المحافظة عليها. إنها قابلية محزنة للانصياع لتحفظات واردة من خارج الحقل الثقافي برمته، والغريب أنه كانت بحوزة النادي أوراق قوة، رفض أن يلعب أياً منها مؤثراً السلامة. فأولاً، تحفظات الأمير هي في النهاية شخصية ولا تعكس سياسة الدولة، ويمكن بسهولة التدليل على هذه الحقيقة عبر الرجوع للمهرجانات الثقافية وبرامجها المنفتحة والتي تقام منذ ثلاثة عقود من المؤسسات الرسمية، مثل الجنادرية ومعرض الكتاب وغيرهما، كما أن الدعوات المتكررة للحوار على المستوى الوطني والإسلامي والدولي من لدن قائد البلاد ومليكها، ورعاية الدولة للنشاطات والمؤسسات المهتمة بهذا الأمر تتنافى في العمق مع طريقة رؤية الأمير فيصل للشأن الثقافي. ثانياً، أن قبول ورقة بحثية عن شاعر أو فنان أو مثقف أو مفكر لا يعني موقفاً متبنياً لنتاجاته، فالكتب والمناهج الدراسية والرسائل العلمية والمؤسسات الثقافية والإعلامية في إطارنا المحلي جميعها تضم نتاجات ودراسات عن شخصيات لا يمكن لكثيرين أن يقبلوا بها، من قبيل بشار بن برد وأبو العلاء و غيرهم، ولم تتلق مؤسسة ما اللوم على ذلك! من المفترض أن هذه الحجة تكمن في صلب تشييد الحقل لاستقلاليته، لكن النادي لم يلجأ لها! المسألة الثانية، تعليقات القراء على تصريح الأمير جميعها تؤيد الأمير وتشيد بقراره، ولم يكن هناك تعليق واحد يدافع عن النشاطات الثقافية و ضرورة استقلالها النسبي، أو عن حرية البحث العلمي. تبنّت كل التعليقات رؤية الأمير نحو كل من القصيمي و منيف، وهذه القابلية المجتمعية الواسعة للحذر والريبة من الإبداع والثقافة تشرح لماذا تعجز الثقافة عن تشييد حقولها، والتي تستدعي تشييد سلطتها على مجالاتها الخاصة. * كاتب و أكاديمي سعودي.