هذه الصور لن نصدّقها. نغمض عيوننا لئلا نقع في الفخّ الذي من عادة الصور أن تنصبه لمن ينظر إليها. هذه ليست سورية التي تقصفها الطائرات. إنها اسرائيل. هذه حيفا وليست حلب. هذه يافا. هذه هضبة الجولان المحتلّة... الصور خادعة. هذه فلسطين المحتلّة تغير عليها طائرات الميغ التي صفق لها العرب طويلاً عام 1973، في مثل هذا الشهر، في حرب الغفران التي بدت أشبه بردّ ولو عابر، على نكسة العام 1967. حرب الغفران التي أعادت الى العرب قدْراً من كرامة كانت تحت الأنقاض... هذه ليست سورية. إننا نقع في الفخّ الذي تُتقن الكاميرات صنعه. الكاميرات التي لم تصدّق أنّ ما تنقله يحصل في الحقيقة، فنصبت الفخ لنفسها، قبل أن توقعنا فيه، كي نصدّق أن هذه البلاد التي ينتهكها القصف وتدمّر القذائف مدنها وتقتل أطفالها وأمهاتهم... هي اسرائيل. إسرائيل التي تجرف أنهار الدم فيها الجدران والجثث والتي يتصاعد الدخان سحباً من أحيائها والحقول. كنت، بالصدفة، أشاهد على شاشة التلفزيون السوري البعثي، ريبورتاجاً عن حرب 1973 التي احتفل النظام باكراً بذكراها التاسعة والثلاثين، لأهداف واضحة جداً. كانت مشاهد الحرب رهيبة، الطائرات السورية تنقض كالنسور على أهدافها في الأرض المحتلّة، كتائب الجيش السوري تتقدّم تحت وابل القذائف والرصاص. صور بالأسود والأبيض لا يمكن العين أن تكذّبها. ثمّ أطلّ حافظ الأسد بزيّه العسكريّ يخاطب السوريين والعرب بنبرة المنتصر، الواثق من انتصاره... وما إن قلبت المحطة هرباً من الكلام البطولي، النافر والمستهلك الذي كان يتفوّه به المذيع البعثي، حتى وقعت على محطة تبث ريبورتاجاً عن خراب حلب وحمص وووو... هذه ليست سورية التي كانت قبل اشهر. الدمار الرهيب يفوق كلّ وصف. أشلاء أبنية وبقايا أحياء وساحات. خرائب وأطلال، خواء لا يقطعه سوى دوي القصف وعويل يتعالى من هنا وهناك... مشهد «أبوكاليبسي» مأسوي رهيب. كيف يمكن مدينة أن تصبح في أقل ما يمكن من وقت، صحراء من أنقاض وخراب؟ كيف يمكن مدينة تضجّ بالحياة أن تسقط وتتعفّر بالدم والتراب؟ لم يكتف النظام السوري بما «أنجز» من مجازر بشرية وبما أراق من دماء وقتل من أطفال ونسوة وبما شرّد من أناس هم مواطنون في بلاد لهم... لم يكتف هذا النظام بما أحرق ودمّر وهدم... لم يرتو هذا النظام، لم يشبع جثثاً وجثثاً وجثثاً. هذا نظام لا يصدّق الصور ولا يعتقد ب «قوّتها». نظام يشك في ما حصل ويحصل. نظام يريد التأكد من دخوله التاريخ من باب المجزرة، من باب المجازر التي وحدها ترسّخ خلود البرابرة. النظام الديكتاتوري يشك حتى في رجاله... يشك في القتل نفسه. الدم الذي أريق لا يكفي. الجثث التي سقطت لا تكفي وكذلك الخرائب والأنقاض. كلّما واجهت الآلة الحربية حواجز على الأرض، انقضّت الطائرات من السماء. هذه اسرائيل، والديكتاتور هو الكفيل بالقضاء عليها وإزالتها من الوجود. هذا هو القتل، القتل الذي تفترضه المصلحة العامة، مصلحة النظام والبعث والشعب. القتل بلا تردّد، القتل بلا شعور بالذنب، القتل بحماسة، القتل عقاباً للثورة والثوار، هؤلاء الإرهابيون الذين يعيثون في الدولة خراباً، هؤلاء العملاء الذين زرعتهم اسرائيل، في أرض الصمود والتصدّي. إنها مجازر أخرى تضاف الى مجازر القرن العشرين، هذا القرن الذي وصف أصلاً ب «قرن المجازر»... وقد تعجز الذاكرة عن استعادة أسماء هذه المجازر التي توالت وأسماء الجزارين والقتلة. تعجز الذاكرة عن استرجاع هذا الشريط المأسوي الذي امتدّ عقوداً وأعواماً من شدّة سوداويته. إنها المجازر السورية التي ستحتل حيزاً كبيراً في كتاب التاريخ الراهن، في الكتاب الأسود، كتاب القرن الحادي والعشرين. لقد دخل الديكتاتور متحف التاريخ من أوسع أبوابه: القتل، القتل، القتل... هذه سورية، الصور مهما كانت خادعة تظل هي الشاهد الأخير على المآسي. هذه سورية وليست اسرائيل. هؤلاء الأطفال والنسوة والعجائز هم من أهل سورية، الثوار هم من أهل سورية أيضاً... هذه المدن والأحياء والساحات والمنازل هي في قلب سورية. أما الطائرات والقذائف والرصاص...