عكس الموقف الروسي في مجلس الأمن، خلال مناقشات الوضع على الحدود السورية - التركية، درجة الإحراج التي وصلت إليها الديبلوماسية الروسية بسبب الإصرار على الموقف الداعم لنظام الرئيس بشار الأسد. وعلى رغم أن إجماع المجلس على إدانة القصف السوري داخل الأراضي التركية شكل سابقة لأن المجلس فشل في توحيد كلمته حيال الوضع السوري على مدى 18 شهراً، إلا أن جهود الديبلوماسية الروسية لتعطيل صدور قرار الإدانة ظلت متواصلة حتى اللحظة الأخيرة. وسعت موسكو بداية إلى تخفيف صيغة القرار من خلال تجاهل الإشارة إلى تهديد الأمن والسلم الإقليميين أو من خلال محاولة ربط الحديث عن التطور بإدانة «التفجيرات الإرهابية في حلب» وتحميل «أطراف خارجية» مسؤولية تدهور الأزمة السورية، لكن في النهاية لم يكن أمام ممثل روسيا فيتالي تشوركين إلا أن يرفع يده مؤيداً صدور القرار الدولي. وعلى رغم أهمية التطور، إلا أن خبراء سارعوا إلى التحذير من خطأ اعتباره «تحولاً» في الموقف الروسي، وإن كانت غالبيتهم أقرت بأن النظام السوري أحرج موسكو أكثر من مرة، وأعادت التذكير بأن الديبلوماسية الروسية «لا تدافع عن النظام وأخطائه». ويدور نقاش ساخن في أوساط الديبلوماسيين وخبراء السياسة الروس حول موازين الربح والخسارة التي حصدتها موسكو بسبب الأزمة السورية، ولم يعد كثيرون داخل مطبخ صنع القرار يخفون استياءهم بسبب الخطاب السياسي الذي تمسكت به موسكو خلال الأزمة، ويرددون أن الديبلوماسية الروسية ارتكبت سلسلة أخطاء ستسفر عن إضعاف الموقف الروسي في المنطقة سنوات طويلة مقبلة، لكن اللافت أن هذه الأحاديث مازالت تتردد خلف الأبواب المغلقة ولا يحاول أصحابها الجهر بمواقفهم أمام وسائل الإعلام. لكن البعض لا يخفي أن لب المسألة لا يكمن في تحديد المكاسب أو الخسائر بشكل ميكانيكي مباشر، لأن مصالح روسيا ومواقعها في هذه المنطقة كانت ولا تزال تستند إلى ما ورثته من الاتحاد السوفياتي، أي إلى ذلك الرصيد الذي لا بد من تداعي أساسه بسبب الزوال الحتمي، تاريخياً، للأنظمة الشريكة للسوفيات والمحسوبة عليهم. ويعكس هذا إيقاناً بأن أي سلطة جديدة في سورية مهما كانت انتماءاتها لن تنحاز إلى موسكو في أي حال من الأحوال، ما يعني أن روسيا قد تنسحب من ساحة الشرق الأوسط في تطور منطقي وستضطر إلى حصر مجال مصالحها ضمن فضائها الحيوي، كما يشير فيودور لوكيانوف رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة الدولية» التي تصدرها الخارجية الروسية. ويوضح الخبير أن روسيا ومنذ بداية الأزمة السورية «لم تكن تمارس لعبتها من أجل سورية أو الشرق الأوسط بقدر ما كانت تسعى إلى ضمان مكانتها في النظام العالمي المعاصر، وذلك من خلال إثبات أن أي أزمة دولية خطيرة لا يمكن إيجاد حل لها من دون أخذ رأي روسيا في الاعتبار، أولاً. وثانياً، عبر الحيلولة دون تكرار السابقة الليبية في أي أزمة إقليمية مقبلة، عندما أجاز مجلس الأمن الدولي بقرار خاص التدخل في الحرب الأهلية في هذا البلد بالانحياز إلى أحد طرفي النزاع». بهذا المعنى تكون موسكو حققت هذين الهدفين، ونال دورها الاعتراف من قبل الجميع، بعدما أمكن تجنب التدخل الخارجي السافر في شؤون سورية (على غرار ما حصل في ليبيا). ولم يبق أمام روسيا إلا أن تفعل شيئا آخر وهو المساعدة على إجراء انتقال سلس للحكم في سورية. ويعكس هذا التحليل وهو ليس الأول من نوعه إذ سبق أن قدم سياسيون روس مقاربات مماثلة أن المطلوب روسياً بعد «إنجاز المهمة» هو الخروج من المأزق الذي وضعت فيه الديبلوماسية الروسية نفسها، بأقل الأثمان. في هذا الإطار تواصل موسكو البحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه ويضمن لها أن تتمسك بالأوراق التي كسبتها، وبين ذلك مبادرة تحويل «اتفاق جنيف» إلى قرار دولي ملزم في مجلس الأمن، وهو المطلب الذي تحض عليه موسكو بقوة حالياً. وموسكو تفهم اتفاق جنيف بإلزام الأطراف على وقف العنف والانتقال إلى تأسيس وضع يسمح بنقل السلطة سلمياً، ومن ضرورة أن يكون للنظام الحالي أو جزء منه على الأقل دور أساسي في رسم تفاصيل المرحلة الانتقالية، لكنها في المقابل لا تصر على ضرورة أن يظل الرئيس بشار الأسد في منصبه حتى حلول موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. في المقابل تسعى أطراف إقليمية إلى ضمان مواصلة تمسك موسكو بمواقفها إلى حين، ويرى البعض أن زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بعد أيام لتوقيع عقود سلاح تزيد قيمتها على خمسة بلايين دولار، تجري بتنسيق مع طهران وفي إطار تعزيز مواقع «صقور» الإدارة الروسية، خصوصاً في المؤسسة العسكرية، في مقابل تصاعد الأصوات التي تطالب بضرورة الاقتراب أكثر من المواقف الدولية قبل فوات الأوان.