على رغم الحديث عن الديموقراطية «الصاعدة» في البلدان العربية والإسهاب في تقريظ الانتخابات البرلمانية بوصفها الطريق المثلى للوصول الى هذه الديموقراطية التي تكاد تتلخص في تمكين الأقلية في اي بلد من البلدان من اختيار حكامها بنفسها، تُطرح بقوة في الماضي وفي الحاضر، في البلدان العربية كما في البلدان الأخرى التي نالت منذ زمن ما، استقلالات لا يبدو انها تعرف حقاً ماذا تفعل بها، مسألة الحاكم. من هو؟ ولماذا هو؟ لماذا يجب اختياره او القبول به؟ ما المزايا التي يجب ان يتمتع بها؟ وما الذي يتعين عليه فعله؟ وهذه الأسئلة وعشرات غيرها هي من النوع نفسه الذي طرحه في الماضي، وفي الفضاء العربي/الإسلامي بخاصة مفكرون مثل إخوان الصفا والفارابي وإبن خلدون من دون ان يصلوا الى اجابات حاسمة، في وقت لم يبتعد فيه آخرون مثل الماوردي عن القول ان الحاكم الأمثل هو الموجود في السلطة مهما كان شأنه! ومهما يكن من أمر، بعيداً من هذا الإيجاز الذي نورده هنا، لا بد من ان نتذكر ان شخصية الحاكم وهويته، كثيراً ما شغلت الكتّاب والفنانين، فكان منهم من استعاد ذكر ملوك وأباطرة وحكام ليسبر غور حياتهم، كما كان منهم من اخترع حكاماً راح يتحدث بالتورية عن واقع ما من خلالهم. وفي هذا الإطار يمكن دائماً التوقف عند الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار التي دنت من الموضوع بقوة في واحد من اقوى كتبها، «مذكرات هادريان» الذي جعلت محوره هذا الإمبراطور الروماني، انما بعدما اعادت تشكيله جاعلة له، حياة قد لا تشبه حياته الحقيقية التاريخية، ومذكرات عابقة بالدلالات. فمن هو هادريان هذا؟ وكيف اشتغلت يورسنار عليه؟ انه، في شكل أو في آخر، الحاكم المثالي، أو هكذا يصوّره التاريخ على الأقل. وهو في هذا الإطار يعتبر من أكثر حكام زمنه اهتماماً بالبنيان والإدارة وحسن سير أمور الناس. ولا يفوت كاتبي سيرته أن يؤكدوا دائماً انه، خلال جولاته الكثيرة التي قام بها في أرجاء الامبراطورية، عرف دائماً كيف يتخذ من الإجراءات والقرارات ما اتسم دائماً بطابع انساني لا ينضب. وهذا، بالتأكيد، ما أسبغ عليه تلك الشعبية الكبيرة، هو الذي قيل انه كان لا يكف عن اصدار أوامره بإعانة الأطفال البائسين، وتشجيع الزراعات في أفريقيا، وتوسيع حقوق المواطنة لتشمل الأرياف بعدما كانت مقتصرة على المدن، اضافة الى تأسيسه ممالك مستقلة في أشوريا وأرمينيا، وتأسيسه شتى أنواع البريد والمواصلات، وإلغائه الكثير من الضرائب والمكوس الظالمة التي كانت تلقي بثقلها على بساط الناس، الذين همّهم أيضاً كونه ألغى أنواعاً من الأضاحي البشرية كانت رائجة في زمنه. هكذا كان هادريان إذاً، الرجل الذي صار امبراطوراً للرومان في العام 117 في وقت كان قرن ونصف القرن قد مرا والامبراطورية تصرخ تحت ضربات الجنرالات الطموحين الذين كانوا يستأثرون بالسلطة الواحد بعد الآخر. وهادريان لم يرث المُلك عن أبيه، بل عن عمّه بالنسب الامبراطور تراجان، الذي مات من دون أن يخلّف ولداً، فزعمت الامبراطورة بلوتين انه كان أوصى بأن يؤول الحكم الى هادريان. صحيح أن اضطرابات ثارت على الفور في وجه تسلمه الحكم، لكن حكمته وقوة إرادته سرعان ما سوتا الأمور. أما انجازات هادريان السريعة فإنها لعبت الدور الباقي، ما جعل فترة حكمه أحد أزهى العصور الرومانية. لكن هذا لم يكن مصادفة. ذلك ان هادريان كان من أتباع ذلك الفكر الرواقي الهادئ والبنّاء الذي ساد خلال مرحلة من الزمن. أو هذا، على الأقل، ما تقترحه علينا مارغريت يورسنار، في روايتها الكبيرة «مذكرات هادريان» التي نتناولها هنا والتي صدرت طبعتها الأولى في العام 1951. وحكاية هذه الرواية بسيطة. إذ من المعروف تاريخيا أن الامبراطور هادريان وضع، في زمن متقدم من حياته كتاب مذكرات، جرى الحديث عنه كثيراً، لكن أحداً لم يعثر له على أثر. وانطلاقاً من هذه الواقعة تصوّرت مارغريت يورسنار أن في امكانها أن تكتب مذكرات الامبراطور، لا لتحيي ذكراه وتمتدح أعماله فقط، ولكن أيضاً لتقدمه أمثولة في حكم الشعوب، ولتقول، انطلاقاً من فكرة أفلاطون حول الملك/ الفيلسوف، ان ما جعل هادريان مختلفاً انما هو شغفه بالعلم والفكر والفنون، وإعجابه خصوصاً بالثقافة الاغريقية وبالموسيقى والرياضيات والنحت والرسم. وهذا الشغف لم يبق لديه، طبعاً، عند حدود الاعجاب النظري، بل تحوّل الى ممارسة، حيث يخبرنا هادريان في رواية يورسنار، كيف بنى المعابد وشجع على نحت التماثيل وأقام المكتبات. كما يخبرنا كيف أنه جعل السلطة الأساس في يد جهاز للحكم هو عبارة عن مجلس استشاري يعيّن الحاكم، ويتألف من رجال حقوق ومفكرين ضليعين في السياسة،... هذا كله تخيلته يورسنار، إذاً، على شكل نص يكتبه هادريان ويوجهه الى ذاك الذي سيصبح ذات يوم، بدوره، امبراطوراً ومفكراً: ماركوس أوريليوس. ولئن كان هادريان رغب أول الأمر في أن يخبر اوريليوس بتطورات مرض اصابه ويكاد يقضي عليه، سرعان ما تصبح الرسالة/ الرواية بحثاً في الأخلاق والفن ودرساً في السياسة والإنسانية. وقد قالت مارغريت يورسنار دائماً ان ما أرادت اظهاره في هذه الرواية انما هو «هادريان الأديب والمتعلم والرحالة والشاعر والعاشق أيضاً». في الرواية، يخبرنا هادريان تفاصيل كثيرة عن حياته التي بدأت حين ولد في اسبانيا، ثم شبّ هناك حتى صار فتياً مولعاً بالعلم فضولياً. وذات يوم قيّض له أن يلتقي شاباً اغريقياً يدعى انطينويس، هو الذي سيصبح رفيقه الدائم وحبه الكبير. وبعد أن ينخرط هادريان في الجندية يكتشف الامبراطور تراجان كفايته فيبدأ الاهتمام به، ويتبناه تقريباً، حتى يصل الشاب المقدام الى رتب عالية، في الوقت نفسه الذي لا يهجر الثقافة والعلم لحظة واحدة. وهنا تؤكد يورسنار في الرواية - ما اعتبر تاريخاً فرضية - أن تراجان هو الذي عيّن هادريان، حقاً، خليفة له... إذ بعد كل شيء علينا ألا ننسى أن هادريان هو الذي يروي لنا الأحداث. المهم أن هادريان يصبح امبراطوراً، لتصبح ولايته إحدى أكثر الحقب ازدهاراً في التاريخ الروماني. ولأن هادريان كان أيضاً رحالة كبيراً، فإنه يصف لنا رحلاته، ولا سيما رحلته الى مصر حيث اكتشف كنوز معرفة جديدة، ثم الى «أورشليم» حيث قاتل غلاة اليهود الذين لم يرتاحوا اليه بسبب تقدمية أفكاره، وهم الذين لاحظ شدة تعصبهم. وبعد ذلك نراه في فارس يفاوض أهلها... ولئن كان معظم ما في الرواية حقيقياً، فإن يورسنار، اضطرت، كما ستقول دائماً، الى ابتكار أحداث ومواقف كثيرة. ومارغريت يورسنار (1903 - 1987) المولودة في بروكسل، والتي ستصبح قبل موتها بقليل أول امرأة أديبة تدخل الاكاديمية الفرنسية، قالت ان فكرة كتابة عمل عن هادريان راودتها منذ كانت في سن الصبا ودخلت المتحف البريطاني حيث لفتها تمثال نصفي لهادريان. وبعد ذلك خلال زيارتها قصر هادريان في روما في العام 1924، قررت أن تبدأ الكتابة التي استغرقتها قرابة ربع قرن لتخلص منها بأن هادريان هذا انما كان رجل نهضة حقيقياً. «بل هو في أساس النهضة التي ستعرفها البشرية بعده بأكثر من ألف عام». اما يورسنار نفسها، فإنها عاشت معظم السنوات الأخيرة من حياتها في جزيرة معزولة عند الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. وهي عرفت بنزعتها الكلاسيكية الإنسانية، التي جعلت من رواياتها أقرب الى أن تكون نصوصاً فلسفية وفكرية رؤيوية همها الإنسان وعلاقته بالعلم والفن وكيفية قبوله الآخر. ومن أبرز أعمالها الى «مذكرات هادريان»: «العمل باللون الأسود» و«الضربة القاضية»، كما أنها كتبت سيرة حياتها في مجلدات عدة صدرت خلال المرحلة الأخيرة من حياتها وأهمها: «ذكريات ورعة» و«محفوظات الشمال». [email protected]