أكد الدكتور إبراهيم التركي أن المثقفين ليسوا وحدهم من يُتم تجاهلهم بمجرد نأيهم عن الساحة، مشيراً إلى أن وزارة الثقافة وملحقاتها في جمعية الثقافة والأندية الأدبية غير معنية إلا بدرعٍ توزعه مع فلاشات التصوير كلما رفعت لهم لافتة الوفاء الغائب أو المغيب. وقال التركي في حوار مع «الحياة» إن الأندية والمراكز الثقافية لا تحتاج لمديرين، بل إلى وسطٍ يقبلها ووسائط تُوصلها وتجديدٍ يمنحها قُبلة الحياة. وأوضح أن الراحل غازي القصيبي تجاوز الذاكرة، ولم يعد محتاجاً لمن يذكر به، متمنياً الاحتفاء بمن هم أقل نجوميةً... إلى تفاصيل الحوار: كتابك «إمضاء لذاكرة الوفاء» يرسخ تقليداً، بدأ بالانحسار، هو الاحتفاء بالشخصيات التي كان ولا يزال لها دور مهم في جوانب عدة من الحياة، ما الدافع إلى تأليفه؟ - قد أختلف معك يا صديقي لأؤكد أن هذا النهج كان منحسراً فعاد، وحكايته معي تنبع من إيماني بعبثية الرثائيات والبكائيات بعد الوفاة؛ فما يحتاجه الميتُ هو الدعاء، ولفت نظري - قبل سنوات بعيدة - عزلة أديبين كبيرين هما الأستاذ عبدالكريم الجهيمان والأستاذ عبدالله عبد الجبار، رحمهما الله، وتزامنت معرفتي بالجهيمان مع بدء خروجه من معتكفه بفضل وفاء الأستاذ محمد القشعمي، فكان أن رتبت لدعوته خارج الرياض وتكريمه في احتفال مشهود وتنظيم ندوة كبرى عنه قبل أن يكرمه مهرجان الجنادرية، وهكذا فقد سعيت لتجديد التواصل الشخصي المباشر مع كبار أدبائنا استمراراً لنهج ابتدأته في عامي الصحافي الأول (1985) عبر صفحة «قراءة في مكتبة»، ومن ثم أيقنت أن من المهم تبني أسلوبٍ منهجي للتكريم فأصدرتُ – مع الزملاء في ثقافية الجزيرة – ملفاتٍ متخصصةً عن أكثر من مئة شخصية ثقافية بارزة، كما انتظمت في كتابة «زاوية إمضاء» التي جمعتها في الكتاب الذي أشرتَ إليه، واحتوى على قراءات لمئة وثلاثة أعلام، وما أزال أواصل أسلوب الملفات والإمضاءات، ولا أجمل من أن يرى الرمز في حياته عرفاناً بمآثره. المثقف حياً أو ميتاً مهضوم الحقوق، لا رعاية يلقاها في حياته، ولا من يذكره ولو بكتاب بعد موته، من نلوم غير وزارة الثقافة والإعلام؟ - ليس المثقفون وحدهم من يُتم تجاهلهم بمجرد نأيهم عن الساحة؛ فالأستاذ الجامعي والمعلم والطبيب والمهندس والمسؤول والإعلامي تنتهي صلاحيتهم باحتجابهم عن العمل أو الظهور العام، ولن ألوم أحداً؛ فالأمر متصلٌ بنا نحن المستفيدين منهم فلو بادرنا لمقابلة عطائهم بلمسات ذكرى وتذكر لفعلنا الكثير، ومعظم الوفاء الذي تراه على شكل تكريم أو تأليف يقوم به الأفراد المؤمنون بقيمة الشخص، أما وزارة الثقافة وملحقاتها في جمعية الثقافة والأندية فما الظن أنها معنية إلا بدرعٍ توزعه مع فلاشات التصوير كلما رفعت لهم لافتة الوفاء الغائب أو المغيب. مرت الذكرى الثانية لرحيل غازي القصيبي ولا من يتذكره سوى بعض المواد القليلة في الصحف، حين يكون أديب ورمز كبير مثل هذا يجابه بالنسيان، ماذا يمكن قوله عن الأدباء الآخرين؟ - غازي رحمه الله تجاوز الذاكرة إلى الذكر ولم يعد محتاجاً لمن يذكر به؛ فقد صار فاصلة معرفيةً وإبداعيةً تستعصي على النسيان؛ وهل يحتاج المتنبي إلى من يسترجع تأريخ مولده أو وفاته؟ ليتنا نحتفي بمن هم أقل نجوميةً من أبي سهيل، أما هو فسيبقى في الخالدين. بصفتك أحد المثقفين والمتابعين عن كثب للمشهد الثقافي، كيف ترى هذا المشهد؟ - هناك عمل وجهود ونتاج، وكما نحن يجيء المشهد؛ فلن ألومه ونحن المقصرين؛ محاضراتٌ لا تُحضر، وأماسٍ لا تُرتاد، ومؤلفاتٌ بلا تسويق، وجماهير يأسرها الرمز الوعظي، والمشهد هو أنت يا عبدالله في «الحياة» وأنا في «الجزيرة» وغيرنا في مواقعهم، وأصدقك فلا عقبات أمام نمو الحراك الثقافي لو سدَّ كلٌ منا الثغرات التي تعتورُ مشروعَه، والسماء لا تمطر ذهباً ووزارة الثقافة لا تمتلك مفاتح العقول. لا تزال انتخابات الأندية الأدبية تشغل الكثير، ماذا تقول عن هذه الأندية وهل لا تزال لها أهمية، ألا يمكن تجاوزها إلى هياكل ثقافية أخرى؟ - منذ زمن بعيد طالبتُ بمراكز ثقافيةٍ بديلةٍ للأندية الأدبية تكون على مستوى الهجرة والقرية وذاتَ فروع في المدن الصغيرة والكبيرة وتتعدد أنشطتها الثقافية والعلمية والتقنية لتضم الطفل والشاب والمرأة والشيخ وتنفذ ورشاً ولقاءات وأمسيات وندوات، أما الأندية - بوضعها الحالي - فلا أظنها قادرةً على الحياة التفاعلية التي ينحو إليها الزمن بوسائطه الفردية وعلاقاته الجمعية وقدراته التقنية على تنظيم منتديات إلكترونية لا تمر عبر بوابات الموافقات والدعوات. بصفتك خبيراً إدارياً وتدير واحدة من كبريات المؤسسات التعليمية، ما رأيك في مقولة إن المثقفين لا علاقة لهم بالإدارة، وإن على رؤساء الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية أن يتخلوا عن مقاعدهم لإداريين جيدين؟ - المثقفون خلقٌ من خلق الله ولا تأذن لهم سماتهم الشخصية بالمقدرة المتجاوزة لمجرد وسمهم الثقافي، والإدارة فن قد لا يتقنه متخصصو الإدارة وأساتذتها المؤكدمون، وما دمنا أشرنا إلى الدكتور غازي القصيبي رحمه الله فقد تخصص في السياسة وأدار سكة الحديد والصناعة والكهرباء والصحة والمياه والعمل ونجح فيها على رغم بعد تخصصه عنها، والأندية والمراكز الثقافية لا تحتاج لمديرين بل إلى وسطٍ يقبلها ووسائط تُوصلها وتجديدٍ يمنحها قُبلة الحياة. لك أسلوب خاص في الكتابة، حدثنا عنه؟ وما حكاية «صاحبكم» التي ترد كثيراً في مقالاتك؟ - لا أعلم إن كان لي أسلوب خاص لكنني وعيتُ الكتابةَ مبكراً طالباً وباحثاً وممارساً فوجدتُ نفسي كما تجدني، ويعجب بعض الأصدقاء حين يعرف أنني أكتب من دون مسودات، مثلما أزعم أنني أتحدث قريباً مما أكتب؛ فهكذا أصنع ولا أتصنع، أما «صاحبكم» فحكايتها ببساطة كرهي لضمير «الأنا» المتضخم في ذواتنا، وما نقوم به هو مشتركٌ بيئيٌ ونفسي ومجتمعي لا يقوم بذاته بل بغيره، وائذن لي أن خرقت هذه القاعدة حين ألجأتني أسئلتك للأنا ولم تقبل «الصاحب» الموحي بفعل محدود وتفاعل ممدود وعزوف عن التمحور حول النفس وأعوذ بالله من شرورها، ومحاولتي باختصار هي سعيٌ للخروج من النفق الفردي إلى الفضاء الجمعي. في رأيك هل انتهينا من موجة الحداثة لندخل في المذهب الليبرالي، الذي لا صوت يعلو هذه الأيام سوى صوته؟ وهل أنت مع الغذامي في موقفه من الليبراليين؟ ماذا تقول في هذه التصنيفات؟ - كتبت قبل سنوات بعيدة عن الإدارة التي تجاوزت زمن الحداثة إلى ما وراءها من دون ضجيج حين دخلته أو صخب حين فسخته، وتطور المشروع الإداري من لدن «علمية فردريك تيلور» السلطوية لآفاق «بيتر دراكر» العولمية التي طالبت المثقفين بإعداد أنفسهم ليكونوا مواطنين كونيين في مجتمع المعرفة «ما بعد الرأسمالي» من دون أن ينبَتُّوا عن جذورهم، وأزعم أن هذا المنظر الإداري الكبير الذي رحل قبل بضعة أعوام (2005) اختصر حواراتنا الصماء حول الحداثة والليبرالية، فلسنا ما نقول بل ما نعمل. أما التصنيفات فأنا لا أعرف أين أضع نفسي فكيف أضع الآخرين، وقد أدعي أن كلاً منا مجموعةُ انتماءات إسلامية وليبرالية قد يغلب أحدها فيشفُّ عن معتنِقه، ويضيع وقته من يظن الانتماءات الثقافية ذات حدودٍ فاصلةٍ قاطعةٍ مانعة، وما قاله أستاذي وصديقي الدكتور عبدالله الغذامي عن الليبرالية الموشومة أثبتته – بعد محاضرته الشهيرة - مواقف الليبراليين من الانتخابات المصرية، كما أن ما يفيض به «تويتر» من بذيء القول وضِيق العطن يوحي بأننا موشومون ولو زعمنا غير ذلك.