في تقرير لمعهد «فورين بوليسي ان فوكس» الاميركي للأبحاث اعده الباحث جيورجيو كافيرو، تشديد على ان «الحكومة العراقية تدعم نظام الرئيس بشار الاسد، وهي كانت من بين حكومات ثلاث دول عربية فقط لم تؤيد تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية». ويشير التقرير الى ان «رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يخشى من ان تؤدي السيطرة «السنية» على سورية، خصوصاً اذا كانت من جانب اسلاميين متشددين، الى اعطاء دفع جديد للتنظيمات السنية المتطرفة في العراق بما فيها تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة، من اجل العمل على تدمير «النظام الشيعي»، وهو النظام الذي نشأ في مرحلة ما بعد حكم صدام حسين، وخصوصاً بعد الانسحاب العسكري الاميركي من العراق في اواخر العام 2011». وتلفت تقارير اخرى الى انه «منذ غزو عام 2003 الذي اطاح الرئيس «السنّي» الراحل صدام حسين، تضع الانتخابات التي ترعاها الولاياتالمتحدة الغالبية الشيعية في العراق في المقدمة، مقرّبة قيادتها من ايران الشيعية وكذلك سورية الحلف العربي الرئيس لطهران في صراع القوى الاقليمي مع الدول العربية». لكن المسؤولين العراقيين يخشون ان تأتي الاضطرابات في سورية بحكومة معادية في دمشق»، وقد يؤدي انهيار حكم اسرة الأسد الذي يرجع الى اربعة عقود الى «زعزعة التوازن الطائفي الدقيق في العراق». ويرى خبير الشؤون السورية مدير «مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة اوكلاهوما»، جوشوا لانديس ان «على رغم ان القيادة العراقية ليست متحدة بشأن السياسة السورية او في موقفها الموالي لإيران، فإن رئيس الوزراء المالكي يرغب مثل ايران في دعم نظام الأسد». وعلى رغم سلسلة من المؤشرات والمواقف التي تدل إلى ان موقف الحكومة العراقية حيال سورية «طائفي» وله صلة بالانسجام مع سياسة طهران، لكن المسؤولين العراقيين يرفضون فكرة ان سياستهم في شأن سورية قائمة على اساس طائفي او نابعة من ضغط ايراني. وحيال هذا الرفض، يظل السبب المعلن لما يبدو موقفاً عراقياً مؤيداً لنظام الاسد: الخشية من وصول متشددين اسلاميين الى سدة الحكم في سورية. هنا وفي مراجعة لأصول القوى الحاكمة في العراق، لا يبدو أن ثمة فرقاً جوهرياً في التشدد بين الحاكمين في العراق، وبين من يخشون من وصولهم الى الحكم في سورية، على افتراض انهم سيصلون. فالقوى العراقية الحاكمة استخدمت السلاح في صراعها على السلطة مع الدولة، مثلما استخدمته ضد بعضها بعضاً، ولاحقاً استخدمت السلاح ضد المكونات الاجتماعية الواسعة العراقية: الحرب الطائفية. وترد هنا تلك القوى بأن «السلطة اليوم في العراق ديموقراطية وتحددها صناديق الاقتراع»، وكأن صناديق الاقتراع ضمانة لعدم التشدد؟ فيما تقول التجارب التاريخية ان القوة المتشددة التي روعت العالم في اربعينات القرن الماضي، ألا وهي «النازية» وصلت الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، مثلما ان آخر انتخابات في العراق سجلت حضوراً قوياً للمتشددين فكرياً وسياسياً: فحزب الدعوة الاسلامية الحاكم، بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي، ليس حزباً ديموقراطياً، وسجل بالعنف الدموي والسلاح حضوره في صراعه مع السلطة العراقية السابقة، مثلما حول عناصر ميليشياه الى ضباط كبار يقودون وحدات ويشغلون مناصب بارزة في المؤسسات الامنية والعسكرية، وبعضها متهم بتنفيذ عمليات قتل واسعة في الحرب الطائفية. وقريباً منه سجل الصدريون حضوراً لافتاً وهم لا يترددون في ذكر جولات دموية كانوا طرفاً فيها خلال الحرب الطائفية. في الطرف الآخر، اي العربي السنّي، فإن كثيراً من القوى والشخصيات السياسية التي حققت حضوراً كبيراً في الانتخابات الاخيرة، كانت ممثلة لتنظيمات ومجموعات مسلحة متشددة فكرياً، واستخدمت القتل هوية لها، مرة تحت اسم «مقاومة الاحتلال»، وأخرى عبر الاندراج الواسع في قتل العراقيين عبر فصول الحرب الطائفية. اليوم في العراق ينتظم التشدد سياسياً وأخلاقياً، فينتج اصطفافاً طائفياً على مستوى الحكم والمجتمع، هو حتى وفق اكثر المتفائلين، لا يقل خطراً عن الذي سبق اندلاع الحرب الطائفية رسمياً في الثاني والعشرين من شباط (فبراير) 2006، وتصبح المادة «4 ارهاب» وهي المادة القانونية التي يتم عبرها اعتقال اي شخص وإن عبر بلاغات كيدية، كافية لايداع عشرات الآلاف من المواطنين في السجون السرية والعلنية، مثلما تجندل «المجموعات الارهابية» التي تقول الحكومة انها «مرتبطة بقوى مشاركة في العملية السياسية»، اي من القوى المشكلة للحكومة والدولة في «العراق الجديد»، المئات من القتلى والجرحى اسبوعياً، فيما الى الشمال، تبدو الدولة الكردية المتحققة طال الوقت ام قصر، مشروعاً لمواجهات تصبّ في فكرة التشدد وجوهرها، فالمواجهات العرقية يمهد لها اليوم سياسياً وفكرياً، عبر خطاب تخويني: العراق العربي يسمي الكرد «انفصاليين يسعون الى تحطيم العراق»، والأخيرون يسمون العرب «شوفينيين لا يترددون في حمل السلاح مرة اخرى لقتلنا». وبالتزامن مع كل هذا الصخب الذي يحدثه الخطاب المتشدد للقوى العراقية، يبدو التعاون الوثيق مع ايران (المتسارع منذ انسحاب القوات الاميركية اواخر العام المنصرم)، مؤشراً على تطابق بين بغداد وطهران، ما يجعل الحكام العراقيين ليس «متشددين» فكرياً وسياسياً وحسب، بل يجعل العراق مرة اخرى «دولة مارقة». اليوم وبسبب السياسة الموالية لإيران والداعمة للنظام السوري، فإن العراق يخرق يومياً العقوبات الدولية على الحكم في دمشقوطهران، وهو ما كشفته أخيراً فضيحة عبور الطائرات الايرانية المحمّلة بالاسلحة الى سورية عبر الأجواء العراقية. ليس هذا فحسب، ففيما كانت العقوبات الدولية تشتد على ايران، كان العراق يوقع معها عقوداً اضافية في مجالات عدة، في خرق فاضح للعقوبات على طهران، لا بل إن الحكومة العراقية التزمت الصمت عن تقارير موثقة عن تهريب للعملة باتجاهين: ايران ترسل عملتها المزورة الى العراق وتبادلها بدولارات سليمة من احتياط السوق العراقية. وفي حين بدا ذلك رفضاً عراقياً لتطبيق العقوبات الدولية على ايران، حاول الناطق الرسمي للحكومة في بغداد، علي الدباغ، «تخفيف» ما يرتكبه العراق من مخالفات واضحة بعدم تطبيق العقوبات على ايران بالقول ان حكومته طلبت من واشنطن استثناء لتطبيق العقوبات على «الجارة العزيزة ايران» كما يصفها الدباغ دائماً في تصريحاته، مقارناً ما طلبته حكومته بطلب مماثل قدمته اليابان، ولكن فاته ان اليابان لا تسرح فيها الممثليات والبعثات الامنية والسياسية والدينية والثقافية و «الخيرية» الايرانية، كما تسرح وتمرح في العراق المخترق من دول الجوار جميعاً وفي مقدمها ايران. وفي ما يتعلق بالموقف من سورية، نجد الحكومة العراقية تتخذ مساراً مماثلاً لموقفها من ايران، فكلما كانت العقوبات الدولية تشتد على النظام في دمشق، كانت الحكومة العراقية تكثف علاقاتها الاقتصادية الى حد ان مسؤولاً سورياً قال: «العراق بات الرئة التي يتنفس بها الاقتصاد السوري». قد تبدو حسابات الحكومة العراقية صحيحة ازاء ايران وسورية، كبلدين مجاورين وللعراق مصلحة في تطوير العلاقة معهما، لكن هذا حين يكون الوضع طبيعياً، لا حين يكون البلدان في خصومة مع العالم والقرارات الدولية. فسياسات العراق «القديم» في رفض الامتثال للعقوبات الدولية، أحرقت البلاد والعباد، والعراق «الجديد» يبدو في لحظة اقرب الى سلفه، وهو ما يجعله اقرب الى «الدول المارقة».