ليس التيار العراقي العابر للطائفية حزباً بقدر ما هو ائتلاف انتخابي لقوى وشخصيات تلتزم قولاً وفعلاً برفض المنهج الطائفي والتبعية للاجنبي في معالجة مشاكل العراق. وفشل القوى والاحزاب الطائفية الحاكمة في توفير الحكم الرشيد فتح الباب واسعاً للبديل السياسي. وقد ظهرت محاولات عدة بهذا الاتجاه ولكنها كانت من رحم الاحزاب الحاكمة نفسها وتحمل ذات الامراض، سوى انها استبدلت اسمها بمسميات غير دينية او طائفية، مثل «دولة القانون» و «الاحرار» و «المستقبل» و «التجديد» وغير ذلك. هذا الفشل اضافة الى اسلوب القمع الجماعي لعناصر حزب البعث سمح للأخير بالتقاط انفاسه وشعبيته من باب المقارنة بحالة الخدمات والفساد بين اليوم والامس، اضافة الى ان العقوبات الجماعية باسم قانون «الاجتثاث» اكسبت الحزب عطفاً كما ساعدت على وحدة قواعد الحزب. ولكن هذا لا يعني ان العراقيين مستعدون لقبول البعث بديلاً حاكماً، بقدر ما يفتح له الباب للعمل مع قوى شعبية اخرى للمساهمة بالتغيير والاصلاح عبر صناديق الاقتراع. فإن فزاعة «البعث الصدامي» لا تزال تستخدم للعزل السياسي على مستوى الشارع والنظام. ويبقى الامر مرهوناً بقدرة «البعث» على اعادة اكتشاف نفسه ونفض غبار الماضي، فالبعث هو في حاجة الى انبعاث جديد. وتشهد الساحة العراقية حراكاً سياسياً على صعيد الأحزاب الحاكمة المتخاصمة، يتسم بالانقسام والتشظي ضمن المكون الطائفي الواحد، الأمر الذي خفف من الاستقطاب السياسي الطائفي بما يسمح للقوى الوسطية والغير طائفية بالتحرك النسبي، ولكن مع اقتراب يوم الانتخاب قد تسعى تلك الاطراف الى اثارة النزاعات الطائفية بهدف اعادة الاصطفاف الطائفي بما يضيق من هامش التحرك بالنسبة الى القوى المعتدلة. فوحدة القوى الاسلامية الشيعية في انتخابات 2005 كانت ثمرة لجهد المرجعية وايران، وفي المقابل كان تشكيل القائمة «العراقية» عام 2010 ثمرة جهود عربية وتركية. والاشكالية التي تواجه القوى العراقية الرافضة للطائفية هي في تشظيها وفقدان القدرة الذاتية على توحيد جهودها وانتظامها بجبهة واحدة. اضافة الى فقدانها للمال ففي غياب قانون للاحزاب اصبح المال الاجنبي والمال العام عماد الكتل الطائفية الكبرى. ان الخطوة الاولى في سبيل قيام تحالف عراقي يتجاوز الطائفية قد تأخذ شكل لجنة عمل من عناصر فاعلة ذات رؤى مشتركة تتحمل مسؤولية مسح الساحة العراقية سعياً وراء تشخيص القوى ذات المصلحة والقناعات المشتركة بهدف الانتظام بهيكلية جبهوية مشتركة. المطلوب مطبخ سياسي قيادي يتولى مسؤولية تشخيص العقبات وكيفية تجاوزها، وبلورة الرؤى السياسية فيما يخص الكثير من القضايا الخلافية كالفيديرالية والدستور والنفط، وأسلوب العمل كضمانة لوحدة التيار او الجبهة. والازمة السياسية المستحكمة في العراق قد تجعل من اجراء انتخابات برلمانية مبكرة احد الحلول الممكنة، وقراءة في آخر استبيان قام به المعهد الاميركي NDI في نيسان (ابريل) الماضي يؤكد ان نوري المالكي يحظى بشعبية متقدمة في الشارع الشيعي، مقابل انقسام الشارع السنّي تجاه الزعامات السنّية التي لم يحظى اي منها على اكثرية، مع غياب كامل لزعامة او تيار عابر للطائفية. ان الحرب الخليجية الثانية عام 1991 أعطت الكرد فرصة إقامة منطقة محمية، تحولت بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 الى اقليم شبه مستقل. فالجانب الكردي بخاصة الحزب الديموقراطي الكردستاني يرى في مصائب المنطقة فرصة لتحقيق ما عجزت البندقية الكردية عن تحقيقة. ويعتقد البارزاني اليوم أن الاقليم الكردستاني لا يستقيم الا بإقامة اقليم شيعي وآخر سنّي على انقاض الدولة العراقية. ونقل عنه قوله «اتحاد عرب العراق من شيعة وسنّة يعني تحول الكرد الى لاجئين». وقيادة البارزاني وفق مصادر مختلفة تعتقد ان اقامة دولة كردية باتت ممكنة، وان الأزمة السورية الحالية واحتمال المواجهة الاسرائيلية الايرانية تتيح فرصة لتحقيق ذلك، ولكن الامر يتطلب اقناع تركيا بأن قيام الدولة الكردية او الكونفيديرالية العراقية الكردستانية تخدم مصالح تركيا والاكراد سوياً. ومن اجل ذلك قام البارزاني بالخطوات التالية: - فتح الاسواق الكردية للبضائع والاستثمارات التركية لحد باتت نصف صادرات تركيا للعراق البالغة اكثر من 12 بلايين دولار سنوياً تذهب الى كردستان العراق. - اعادة المياه الى مجاريها مع الموصل بتجميد الخلافات مع مجلس محافظة الموصل، وعودة «القائمة المتاخية» الكردية للتعاون مع المحافظ القريب من الاوساط التركية. - مد خط أنابيب مباشر من مصادر النفط في كردستان الى تركيا من دون الاعتماد على انبوب النفط العراقي، ويتوقع اكمال الخط اواخر عام 2013، وعرض النفط الكردي لتركيا بديلاً عن نفط العراق او غيره. - المساعدة في كسب أكراد سورية للتعاون مع تركيا ضد نظام الأسد، ومن اجل ذلك عقد مؤتمراً للاحزاب الكردية السورية في اربيل اوائل العام الجاري، وهناك اكثر من ثلاثة آلاف كردي سوري في دهوك. - الحديث عن تحالف سنّي، يضم الاكراد والاتراك وعرب الموصل، بزعامة العثمانية الجديدة في مواجهة الصفوية الايرانية والشيعة. - تصبح الدولة الكردية منطقة عازلة بين تركيا والشيعة في العراق وايران. - وأكثر من كل هذا مساعدة تركيا على انهاء مقاومة حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يمثل الهم التركي الرئيسي. ويبقى السؤال هل ستستجيب انقرة لكل هذه الاغراءات؟ ان التردد التركي ينتهي اذا ما فشلنا في استرجاع وحدة عرب العراق شيعة وسنّة. وبعد ان راهنت ادارة بوش الابن على تحالف شيعي كردي لحكم العراق وجدت نفسها متورطة في حرب داخلية لم تكن متوقعه، كما اتضح ان الحليف الشيعي الاسلامي بات أقرب الى ايران منه الى واشنطن، الامر الذي فرض على واشنطن اعادة النظر في تحالفاتها العراقية لصالح كسب عرب العراق السنة، وتبقى اميركا تتعامل مع العراق على اساس طائفي واثني. ان المصلحة الاميركية في ظل الادارة الديموقراطية هي في استخدام نفوذها من اجل استقرار العراق وعدم هيمنة ايران الكاملة عليه، وضمان تدفق النفط العراقي. الاعتراف الاميركي بالنفوذ الايراني تفرضه ضرورة استقرار العراق فالاصطدام مع طهران قد يورط واشنطن مجدداً بالتدخل العسكري. كما ان اميركا تأخذ في الاعتبار الشارع الشيعي وعملت على دعم «المالكي» صاحب النفوذ الأكبر فيه بما يضمن استقراره، اضافة لكونه مقبولاً ايرانياً. وبالمقابل تريد ايران استقرار الوضع الحالي (هيمنة الشيعة الاسلاميين) مع محاولة تحييد المعارضة «السنية»، وإضعاف النفوذ الاميركي كما حصل في الاصرار على انسحاب القوات الاميركية. وبات العراق في ظل العقوبات الدولية على ايران بوابتها الاقتصادية الأهم مما يجعل من استقراره ضرورة ايرانية. وهكذا تلتقي واشنطنوطهران في الحفاظ على الامر الراهن في العراق، مع استمرار التنافس على النفوذ. ومن هنا يدخل الرقم العروبي التي باتت واشنطن ترى فيه ورقة لاضعاف النفوذ الايراني، كما يفسر تأييد حلفائها في المنطقة للقائمة «العراقية» في انتخابات 2010. ولكن كل هذه الحسابات تتغير في حال فشل المحادثات الاميركية الاوروبية مع ايران حول ملفها النووي. واي مواجهة اميركية/اسرائيلية ضد ايران ستجعل من العراق ساحتها ووقودها. في واقع الحال ليس هناك من دول الطوق من يرغب في تقسيم العراق خوفاً من تداعياته على الاوضاع الداخلية لتلك الدول، ولكن كافة هذه الدول لا تريد عراقاً قوياً. وان انقسام البيت العراقي أصبحت ورقة تلك الدول في التمدد في العراق باسم حماية هذه الطائفة او تلك. ومرة اخرى تتغير كافة المعادلات الاقليمية فيما اذا انزلقت المنطقة الى مواجهة بين محوريين: الهلال الشيعي بقيادة ايران مقابل المنجل السنّي بقيادة تركيا والسعودية ليصبح العراق ساحة ووقود هذا الصراع. وختاماً يبقى سلاحنا امام كل هذه التحديات هو في دخول البرلمان بكتلة كبيرة عبر تحالف انتخابي يتجاوز الشرخ الطائفي باعتماد وحدة عرب العراق كحجر الزاوية. * كاتب عراقي