«أرامكو السعودية».. قصة نجاح تقني تم تحقيقه، ولم يكتمل إلا حين اقترن هذا النجاح بأسماء أولئك الذين فكّروا ثم كرّسوا كل جهودهم من أجل تجسيد ذلك الحلم إلى حقيقة ماثلة، تقف شاهداً على بذلهم وعطائهم، محققين بتفانيهم وإبداعاتهم تلك الإنجازات الرائعة والخالدة، فبناء الأمم يبدأ من بناء مجتمعاتها، ممثلة في الإنسان المنتج، وإذا أقصينا العنصر البشري عن تلك المهمة الوطنية النبيلة فلن يتحقق شيء على الإطلاق... هذا بعض ما جاء في مقدمة كتاب يحكي قصة أرامكو السعودية منذ بداياتها الأولى، تأليف سكوت مكموري وترجمة كل من: جلال الخطيب، وليد العبود، رضا حافظ، أحمد عبداللطيف، محمد الجوهرجي وفيان الخفاجي، وأصدرته شركة أرامكو - هيوستن، تكساس، أميركا. منذ أن دخل «عبدالعزيز» ملك المملكة العربية السعودية بلقبه القديم «سلطان نجد والحجاز وملحقاتها» تلك الخيمة الفسيحة في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1922 قرب ميناء العقير لمؤتمر عقد وقتذاك، وكانت هناك مواضيع كثيرة على المحك، إذ كان عليه مناقشة الحدود الرسمية للمنطقة مع الممثلين الإقليميين للحكومة البريطانية، ولم يكن هؤلاء يدركون أن هذا الرجل يتطلع إلى أنه سيقود شعبه إلى حياة أفضل، وحرص حينها على عدم توقيع أية اتفاقات تورطه مع البريطانيين، وظل يفاوضهم سنوات عدة محافظاً على أكبر قدر من الاستقلال الشخصي، وتحقق ذلك منذ أن وقع اتفاق امتياز مع «هولمز» في أيار (مايو) 1923، مشترطاً دفعات سنوية لقاء التنقيب عن النفط في المنطقة حتى ألغي التعاقد معهم عام 1927، بعد عجزهم عن دفع المتأخرات عليهم وعدم اكتشافهم على ما يشير إلى وجود النفط. البدايات الأولى استعرض الكاتب في فصل البدايات الأولى تاريخ الشركات الأجنبية التي كانت تهدف إلى التنقيب عن النفط في المناطق المجاورة، رابطاً آلية عمل هذه الشركات بالأحداث السياسية والتاريخية التي تمر بها المنطقة، وخصوصاً مع وبعد أحداث الحرب العالمية الأولى، وعرض لكثير من الشراكات التي نشأت بين الإنكليز وبعض هذه الدول لاكتشاف الزيت، واستشرف «فرد ديفيس» الباحث في إحدى الشركات في البحرين إلى أن المنطقة المجاورة للشاطئ القريب لا بد وأن تحتوي على النفط، ومضت ثلاث سنوات وقتذاك قبل أن يمنح الملك عبدالعزيز شركة «سوكال» حق التنقيب عن النفط في شبه الجزيرة العربية، ولم يخطر ببال أحد أنه في بضعة عقود من الزمن أن المملكة ستمتلك أضخم احتياطات نفطية في العالم. التنافس على المواقع وجد الملك عبدالعزيز نفسه أمام خيارات صعبة، فقد وعى أثر اكتشاف النفط على الدول المجاورة كالبحرين وإيران والعراق، ولكنه كان يفكر في الطريقة المثلى لتطوير موارده الطبيعية، وبخاصة بعد النكسة الاقتصادية العالمية وتضاءل أعداد الحجاج إذ كان موسم الحج هو مصدر الدخل الأكبر للبلاد، حينها أدرك - رحمه الله - أن حياة شعبه وتقدم بلاده لن يتحقق إلا بتوفير مصدرين رئيسيين، هما رأس المال الأجنبي والخبرات الفنية، ويروي «فلبي» وهو ضابط بريطاني، وكان موظفاً حكومياً في الهند، وقد اعتنق الإسلام عام 1930، وكان مستشاراً قريباً من الملك بأن: عبدالعزيز كان موقناً بأن في البلاد ثروات لا تقدر بثمن، إلى أن حان بعد ذاك التشاور حول تطوير الأمر ولقاء الملك ب«تشارلز كرين» الذي اجتمع معه فترات طوال لمناقشة الحاجات المعنوية والمادية اللازمة لتطوير المجتمعات عموماً، وبعد مباحثات عدة، وافق الملك عبدالعزيز على التنقيب في الأحساء، إلى أن أبلغ الملك بعدها بتوقعات وجود الزيت في تشكيلات الصخور الرسوبية تحت أراضي الأحساء، واقترحت حينها فكرة إنشاء ميناء رأس تنورة، وقد أبدى «عبدالعزيز» حينها فكرة التنقيب في المكان نفسه، إلا أن الخبراء طلبوا منه التريث حتى تظهر نتائج التنقيب في بئر رقم (1) في البحرين، وفعلاً تم اكتشاف النفط فيها، فتوجهت الأنظار إلى الساحل الشرقي للبلاد، ولكن «الرجل الحكيم» لم يكترث لهذا التسابق المحموم، ولم يسمح بأعمال التنقيب حتى استشار معاونيه ومن ضمنهم «فلبي»، وخلص على وضع شروط في غاية التعقيد، حتى انتهى الأمر بالتوقيع من «سوكال» بشروط مرضية عام 1933، وقد نصت المادة (32) من العقد على (أن يتولى الجانب الأميركي إدارة المشروع مع مراعاة توظيف المواطنين السعوديين ما أمكن، وأن لا يستعان بغير السعودي إلا في حال عدم توافر الأكفاء من السعوديين)، وهذه المادة بمفردها ساعدت في إعداد الأرضية المناسبة للتحول الكبير الذي شهده المجتمع السعودي. قراءة الصخور استعرض الكاتب ما حدث بعد إتمام اتفاق التنقيب في المنطقة، وكيف شرع المسؤولون التنفيذيون في الشركة للاستعداد لعمليات الاكتشاف، من إحضار تجهيزاتهم الخاصة وبناء مخيمات، إذ العيش في الصحراء كان يتطلب جهوداً جبارة ومضاعفة، والتعامل مع تقلبات أجوائها القاسية، مُشيراً إلى العديد من القصص التي قابلت فرق العمل من خلال رواية بعد من عاصروا الأمر في حينه، سواء من العاملين أم سكان المنطقة أم على لسان بعض المسؤولين والوزراء في مذكراتهم أو أحاديث نقلت عنهم، وذكر تسلسلاً لتطور العمل والجهات التي استعين بها لرسم الخرائط وتحديد الاتجاهات وتفاصيل يستلهم منها أن بدايات التأسيس لعمل يبقى لعقود طويلة من الزمان، كما عرض للتعاقدات الداخلية بين الشركة صاحبة الامتياز والشركات الأخرى، وما يترتب عليها من تنازلات أو تحديد نسب وقروض وأرباح ، مشيراً في بعض مقاطع هذا الفصل على أصل الزيت في المنطقة وامتداده، وأسماء بعض العمال من السعوديين وأوائل الموظفين المواطنين، ناشراً للعديد من قصص الفشل واليأس والتفاؤل التي مرّت بهذه الفترة وحقائق عن حفر آبار، بعمق يتجاوز 1500 متر تحت الأرض، ولم يغفل الكاتب الحديث عن أوضاع العاملين الأجانب في شركات التنقيب، وعائلاتهم وأطفالهم وما ترتب على وجودهم في المنطقة، وتفاعل المواطنين معهم وبناء المرافق والمدن للحياة والدراسة والاستشفاء والإقامة لسنوات طوال. وما انتشرت أخبار اكتشاف النفط إلى جميع العالم، حتى شرع العاملون في التنقيب إلى بناء مرافق تحميل الزيت، وصنع خزانات تجميع، وخطوط أنابيب، ومحطة تحميل في الخبر، ومد أنبوب إلى ميناء رأس تنوره تحت سطح البحر، لتصب في الناقلات في المياه العميقة، وأُعلن في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1938 أن السعودية بدأت في الإنتاج التجاري، وحين أدار الملك عبدالعزيز الصمام لبدء تدفق الزيت، كان عملياً ونظرياً يربط شعبه المتطلع للرخاء بركب العالم الصناعي، وكان واثقاً أن الزيت السعودي سيعود بالثروة والخير والحياة الكريمة. وفي فصول تالية، تناول الكاتب ما مرّت به المنطقة، موضحاً أن المملكة لم تكن خارج دوامة تجاذبات السياسة الدولية، حين كانت القوى الصناعية والعسكرية قاب قوسين أو أدنى من الحرب العالمية الثانية، إذ إن موقع المملكة ومواردها الطبيعية كانا مطمعاً لدول المحور، كما ذكر تأثير أوضاع الحرب في العمل والإنتاج، وقلة السلع التجارية والمكائد الدولية، إلى أن توصل لعرض الاكتشافات النفطية في المنطقة الشرقية والغوار وأبو حدرية وبقيق. وأشار الكاتب إلى الحادثة التي تعرضت فيها الظهران لقصف جوي من طائرات إيطالية، تم الاعتذار عنها في اليوم التالي، إذ كانت متوجهة لقصف آبار بحرينية تديرها شركات بريطانية، لافتاً إلى أن هذه الحادثة جعلت الكثيرين من العاملين يرحّلون عائلاتهم إلى أوطانهم، وتسببت الحرب في تأجيل خطط زيادة الإنتاج. وأوضح أنه خلال هذه الفترة، بدأ تعليم الجيل الجديد، وافتتحت أول مدرسة في الخبر، وكان القائم عليها حجي بن قاسم، وفتحت لأبناء العاملين والمقيمين في المنطقة، حتى تطور الأمر، ووفرت الشركة الأدوات الدراسية، ثم فتحت «كاسوك» مدرسة أخرى في المخيمات التي يعيش فيها السعوديون، وكانت مفتوحة للجميع، كما أن البنات خلال هذا الوقت كن يتعلمن في بيوت الأهالي، وكانت والدة عبدالله الجمعة أول من بدأت بتعليم البنات في منزلها في الخبر. وفي مرحلة التوسع وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت السنوات التي أعقبتها بالغة الأهمية بالنسبة إلى أرامكو، سواء من الناحية الصناعية أو الثقافية أو الجغرافية السياسية، إذ أنشأت مدن التابلاين من حقول النفط إلى البحر الأبيض المتوسط، وبعد انتقال الملكية لأرامكو توصل المسؤولون فيها إلى عقد اتفاقات مع الدول التي يمر فيها هذا الأنبوب، على رغم التوتر الذي تشهده المنطقة، ونشأت في شمال المملكة مدن صغيرة على طول الخط مناسبة لحياة ما لا يقل عن 5000 نسمة، وكانت مهيأة كمجتمعات سكنية. واستعرض الكتاب مختلف التغيرات الاجتماعية والتطورات التي استفاد منها البدو الرحل والحضر المقيمون. كما استعرض تطور مدينة أرامكو في الظهران، ودور نوعية العمل فيها، وإدارة الشركة، وتعليم وتدريب العمال، وتوظيف أبناء المنطقة، وتعلمهم حقوق العامل، والمطالبة بالتعويضات، والأجواء الثقافية السائدة ومحطة التلفزيون الخاصة وتأثيرها في الحياة العامة. وعن الاضطرابات السياسية وحرب فلسطين وتهجيرهم وأزمة قناة السويس ونزاع البريمي وتحديث المنطقة بعد وفاة الملك عبدالعزيز وتولي الملك سعود القيادة ومن ثم تنظيم الشركة برامج التدريب والابتعاث للخارج. وفي المجلد الثاني، استعرض الكاتب فترة الستينات الميلادية التي اتسمت بسرعة التغيرات والتطورات في المملكة عموماً وأرامكو خصوصاً، إذ كانت سياسة المملكة حينها تعبيراً عن تضامنها مع الدول الأخرى المنتجة للبترول وازدادت المملكة جزماً في التعبير عن رغبتها في الحصول على أكبر قدر ممكن من الثروة من مواردها الكامنة في أراضيها، كما تسارعت وتيرة مشاريع التنمية بعد تولي الملك فيصل الحكم بعد أخيه سعود. الموارد الوطنية... والتغيّر الذي طرأ على الأيدي العاملة نتيجة للزيادة في إمدادات الزيت الخام في مختلف أنحاء العالم، كانت أرامكو بدأت في نهاية الخمسينات في التقشف، فانخفض عدد موظفيها الذي كان نحو 25000 موظف في أواسط الخمسينات لنحو 10 في المئة، وكان أكثر من فقدوا وظائفهم من غير السعوديين، وأغلقت بعض مكاتبها في باكستان وعدن، أما الوظائف السعودية فانخفضت بنسبة 5 في المئة، وأصبح عدد السعوديين فيها 11140 موظفاً، وعلى رغم قلتهم، إلا أنهم كانوا أكثر تدريباً واستقراراً وأعلى أجراً عما كانوا عليه من قبل، واتسمت الستينات الميلادية باستمرار الانخفاض حتى عام 1970، ولكن كان الإنتاج في أحسن حالاته، وزاد إجمالي مدفوعات أرامكو للحكومة السعودية من 383 إلى نحو 1159 مليون دولار، وخلال هذه المرحلة زادت فرص التعليم، وفتحت كليات متخصصة في تدريس البترول والتعدين للسعوديين، وعرض الكاتب تاريخ أول سعودية تم تعيينها في أرامكو، وهي السيدة نجاة الحسيني التي تخرجت في جامعة دمشق، وتولت تثقيف عائلات الموظفين السعوديين بالممارسات الأساسية في الصحة والنظافة. وذكر أنه على رغم انخفاض وتيرة أعمال البناء، إلا أن الستينات شهدت أعمال تنقيب واكتشاف آبار جديدة في مياه الخليج العربي، كما اكتشف جولوجيو أرامكو ثلاثة حقول أخرى في المنطقة وهي المرجان وكران وجنا، كما اكتشف شمال شرق صحراء الربع الخالي حقل شيبة على بعد 800 كيلومتر من الظهران. ومع اقتراب نهاية الستينات زادت رغبة الحكومة في استثمار المزيد من الفرص المتاحة في صناعة الزيت، والحصول على دخل إضافي لتمويل التنمية، وأدركت أهمية الاحتفاظ بخبرة شركة الزيت، وقدرتها على الوصول بسرعة إلى الأسواق الغربية. زمن الرخاء سعت المملكة إلى استغلال خبراتها في تكثيف خططها التنموية، ما دفع دول الشرق الأوسط المنتجة للنفط للبحث عن طرق لانتزاع السيطرة على أسواق الزيت العالمية، وهذان التوجهان كانا بمثابة اختبار قاسي لقدرة أرامكو على الوفاء بوعودها لحاملي أسهمها الحكومية، وفي بضعة أشهر تحوّلت الشركة إلى نهج التوسع، وسجلت أكبر التزام بالموارد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقفز إنتاج أرامكو عام 1971 بنسبة 27 في المئة عن السنة السابقة، وتوسعت في إنشاء معامل فرز الغاز ومعامل فرز الزيت وصهاريج التخزين للزيت الخام، ووصلت إلى لعب دور «المنتج المرجح» في أسواق الزيت العالمية، وفتحت أبواب التوظيف في جميع أنحاء المملكة وفي دول أخرى، وازدهرت أعمال الزيت السعودية وتضاعف حجمها بكل المقاييس، ووصل عدد القوة العاملة في أرامكو بحلول عام 1975 من الموظفين السعوديين إلى 19500، وفي عام 1977 توسعت المدينة الإسكانية في المنطقة، وتم إنشاء مبان سكنية سريعة لحل مشكلة إسكان الموظفين، وفي كانون الثاني (يناير) 1976 تم افتتاح أول مركز لتدريب السعوديات على الأعمال المكتبية، وبحلول عام 1978 تولى النعيمي وظيفة النائب الأعلى للرئيس لشؤون الزيت، وكانت بداية لتعميم السعودة في الشركة، حتى انتهت المفاوضات معها لشراء الحكومة ما تبقى من أسهمها وامتلاكها بالكامل، ووقع الاتفاق عام 1980، وكان ذلك في عهد المغفور له الملك خالد، وفي أيار (مايو) 1983 احتفلت المملكة بالذكرى ال50 لتوقيع المملكة على اتفاق الامتياز، الذي منح بمقتضاه شركة سوكال حق التنقيب عن الزيت شرق المملكة، وتوالى بعدها التخطيط من أجل الازدهار، وفتحت برامج التوظيف السريع والتطوير المهني، ونشطت المرأة السعودية في أرامكو، وتولت العديد من القيادات النسائية فيها دوراً بارزاً كالدكتورة ثريا العريض وفاطمة العوامي ونائلة موصلي.