الدعوة السلفية نسبة إلى السلف الصالح، وفي اللغة، المتقدمون والسابقون، والمراد بها إصطلاحاً أهل القرون الثلاثة الأول. فهذه بشهادة النبي (صلى الله عليه وسلم) خير القرون. وهذا لا يشمل عندهم الأمور الدنيوية، وعلومها. وتُعتَبر السلفية امتداداً لمدرسة أهل الحديث في القرن 3ه، ورائدها ابن حنبل (855م)، في مواجهة المعتزلة، وانتهت هذه المواجهة بانتصار الخليفة المتوكل لمنهج ابن حنبل ومعتقده. ما لبثت السلفية أن شهدت انحساراً ملحوظاً شعبياً وسياسياً بعد انقسام الفقهاء وأهل الحديث إلى حنابلة وأشاعرة، وعلو موقع الأشاعرة. إلى أن أحيا ابن تيمية السلفية، في القرن الثالث عشر للهجرة، بالتزامن مع سيطرة التتار على بغداد عام 1259م. وتابع رسالته ابن قيم الجوزية (1350) وابن كثير (1394 ) وصولاً إلى محمد بن عبدالوهاب (1791). يدعّي السلفيون أن دعوتهم قديمة تلتصق بالإسلام الصحيح النبوي. بينما ذهب الباحثون إلى أنها ظهرت بعد أن تسربت الثقافات الأجنبية، في العصر العباسي، ودخول النظر العقلي (علم الكلام) والتفلسف على المسلمين. فتمسكت السلفية بالمأثور على الرأي، وبالكتاب والسنة وفهمهما على طريقة السلف، وبالتوحيد الصحيح على حساب التوسل لغير الله، وتجنب البدع. ارتبطت السلفية بوحدة الأصول العقائدية، وباختلاف أعلامها بالفروع، أي اتفقوا في الإلهيات واختلفوا في الفقهيات. وما يميزها أنها اشتهرت بطاعة أولي الأمر، والتدرج في إنكار المنكر، وعدم إعلان الجهاد إلا بإذن الحاكم، والمناصحة للحاكم. وتعدَّدت الاتجاهات السلفية حتى وصل الاختلاف بينها، في الوقت الراهن، حد التناقض، إذ لم يعد معطف السلفية قادراً على أن يجمع سلفية «جهادية» تدعو إلى الانقلاب على أنظمة الحكم، وسلفية «تقليدية» و «علمية»، تتبنى الفكر الانسحابي. ومن إيجابيات منهجها النصوصي –وفق عمارة- أنه ضيق دائرة الحرام والحلال وحصرها على الأمور التي وردت فيها النصوص، أما ما عدا ذلك فأدخلوها في باب النافع والضار، على العكس الذين توسعوا في التحريم وضيقوا على الناس استناداً على القياس. ومن آرائها الإيجابية، التي أتى بها ابن قيم الجوزية، قوله في»تغير الفتوى واختلافها وفق تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال»، وأن «الشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد». كما ميَّز في الأحكام ما يتأسس منها على نص، وما يتغير بتغير الواقع والأحوال والمصالح. فأكد على أن «الفتاوى والأحكام تتغير وتختلف وفق تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال». وانعكس هذا الموقف على آرائهم السياسية. بما أن (الشريعة) كانت تعني الشرع المنزَّل في الكتاب والسنة، فإنه مع التغيرات الحاصلة صار الفقهاء والحكام (يُشرعون) أحكاماً جديدة، فنشأ ما يسميه ابن القيم (شرع التأويل) الذي غدا بناء قانونياً ذا طبيعة مدنية وليس دينية، مصدره تأويلات الفقهاء. وأقر بعض أعلام السلفية أن (مقاصد الشريعة): العدل، تحقيق المصالح ودفع المضار. وبالتالي فإن كل ما يحقق هذه المصالح هو (شرع وشريعة). وقال ابن قيم: «فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله .. فإذا كانت (السياسية) عدلاً فهي من الشرع». فطوَّر هذا الرأي مضمون (الشريعة) ليشمل (السياسة) العادلة حتى يمكن التوفيق بين (فقه الواقع ) و (فقه الشرع). لكن السلفية حافظت على إجماعها ضد الخروج على الحاكم الظالم. ذكَّر الفرار (1066م) بكلمات ابن حنبل القائلة: «ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين!». وهذا ما أكده ابن القيم. استجابت السلفية لبساطة الفكر عند العامة، ولاقاها العامة بالتأييد. استمرت على هذا الحال في العصر الوسيط، وأكدت نفسها في القرن 18 في الوهابية والسنوسية تحت راية تجديد الدين وتنقيته من البدع. ثم استمرت كحركة تجديد وإحياء لدى الأفغاني وعبده، اللذين انطلقا من افتراض أساسي: إن الإسلام الصحيح لا يتعارض مع المدنية الحديثة. فجمعا بين التمسك، على طريقة السلف، بعقائد الدين وأصوله، وبين تجديدهما للدين وتحريرهما للعقل. ولعل الإمام حسن البنا، أبرز شخصيات الإسلام السياسي، انطلق من النهج السلفي في إصلاحه، «الذي لخصه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، «وتطهير العقول من الخرافات والأوهام»، غير أنه اختلف عن السلفيين في أنه وظَّف الدين بالسياسة، وقال إن الإسلام مصحف وسيف. فدشن بذلك عهد الإسلام السياسي. وفتح الطريق أمام انبعاث ما يسمَّى السلفية الجهادية، التي اتخذت أبعادها على يد سيد قطب. وجاءت دعوة أبي الاعلى المودودي (-1979م)، وتأسيسه ل (الجماعة الإسلامية)، في شبه القارة الهندية، لتشمل مقاصدها إصلاح جوانب الحياة جميعاً، لتُكمل رسالة البنا، وتتبنى تصوره التدخلي الاعتراضي في السياسة والحكم. إلا أن هذا لم يُوقف موج السلفية التقليدية تحت مسميات (أنصار السنة) في العالم الإسلامي، وغيرها من المسميات، وتكاد تحصر دعوتها في التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة ما طرأ على العقيدة الإسلامية من انحرافات، والالتزام بالسنة في القول والمظهر والسلوك. وقد وجد السلفيون أنفسهم مضطرين لمراجعة مواقفهم من السياسية ومن طريقة تعاملهم مع الأنظمة، فحدثت في صفوفهم انقسامات عديدة، لا سيما في أتون الصراع مع أميركا بعد حروب الخليج، فتمخض ذلك عن تقوية السلفية الجهادية، رغم ذلك بقيت الغلبة للسلفية الانسحابية عن السياسة، يساندها سلفية المشيخة الرسمية، التي سلِّمت للحاكم بالشأن السياسي. ولعل تجربة الإسلاميين في تركيا والمغرب والأردن شجعت بعض رموز السلفية كسليمان العودة على تحبيذ دخول الإسلاميين في العمليات السياسية المرتكزة على مفاهيم غربية كالديمقراطية. في حين أن قطب، وورثته، قد أكدوا على أن المعركة بين الإسلام وأعدائه تدور حول التوحيد، وحول لمن يكون الحكم، حكم الله أو البشر؟! وحكمت هذه الرؤية تيارات السلفية الجهادية كافة وفي مقدمها «القاعدة». بينما حافظت جماعة الإخوان على نبذ العنف. بقيت الغلبة للسلفية الوعظية الانسحابية، لكن ثورات الربيع العربي دفعتها إلى الانخراط بها، فحدث ما يمكن تسميته انفجار سلفي سياسي كبير، وهو ما نغَّص، في بعض جوانبه، المشهد السياسي، وذلك باقتران بعض تيارات السلفية بالجهادية. ظهر ذلك جلياً في الحوادث الأخيرة في بنغازي وتونس والقاهرة. أما في سورية، فتبدو كأنها امتداد لسلفية القاسمي ورضا، ثم غلب عليها، بعد محنة الثمانينات، التبعثر وانعدام التنظيم، والانسحاب من السياسة إذا استثنينا المشيخية الرسمية الملتصقة بالنظام خشية أو منفعة. أما السلفية الجهادية فقد وظفها النظام في معاركه الدامية في العراق ولبنان، وعند الضرورة أطلق، من سجونه، أبرز رموزها أبو مصعب السوري (مصطفى مزيك)!