نصَّب انتخاب باراك أوباما أكثر الرؤساء الأميركيين كوسموبوليتية واختلاطاً عرقياً وثقافياً. والحق يقال، ليس أوباما الرئيس الأميركي الأول الذي يتحدر من أهل غير أميركيين، أي من والد (ة) من الوالدين غير أميركي. فهذا شأن أندرو جاكسون وجايمس يوكانان وشيستير آرثر وتوماس جيفرسون وودرو ويلسون وهربرت هوفر. لكنه أول رئيس قضى في الخارج الوقت الطويل الذي قضاه أوباما في طفولته خارج الولاياتالمتحدة وأراضيها: 4 سنوات بإندونيسيا في 1967 - 1971، وثماني سنوات أقامها في ولاية هاواي في 1971 - 1979. وهو الرئيس الذي تأمل ملياً في هويته الأميركية، وفي علاقة هذه الهوية بمناطق أخرى من العالم. ومن المناطق الأخرى هذه إرلندا، البلد الذي يُرجع 44 مليوناً من الأميركيين بعض جذورهم وجذور آبائهم إليه. واجتمع أوباما ورونالد ريغان على زيارة قرى صغيرة بإرلندا، الأول زار مونيغال، مسقط أحد أجداد والدته، والثاني باليبورين حيث ولد جد أبيه. وقارن الرئيس الأميركي الحالي الولاياتالمتحدة ببلدان أخرى. وهذا ما يتحاشاه الرؤساء الأميركيون، عادة، ويثير نقمة الجمهوريين. فالمقارنة تصريح بأن «أميركا» ليست الاستثناء الفريد الذي يضعها على حدة من العالم وبلدانه. وقد لا تميل لغة المقارنة على الدوام لمصلحة «الأمة الفريدة». وتعمد أوباما جمع بلده والبلدان الأخرى في باب واحد، يتناغم وتيار العولمة المتعاظمة الذي ينخرط فيه المجتمع الأميركي، خصوصاً المدن الكبيرة التي يشبه اختلاط اللغات والألسن والديانات والثقافات فيها ما يروى عن بابل. فثمة 12 في المئة من الأميركيين الحاليين ولد في الخارج، معظمهم ولدوا بالمكسيك وأميركا اللاتينية وبلدان البحر الكاريبي وآسيا. و20 في المئة يتحادثون في البيت بلغة غير الإنكليزية، هي الإسبانية غالباً، إلى الصينية ولغات آسيوية أخرى، واللغة الفرنسية (2.7 في المئة متحدرون من البحر الكاريبي أو من أفريقيا). وعلى هذا، فروابط أوباما بالبحر الكاريبي (هاواي) وآسيا (إندونيسيا) هي مرآة دينامية الهجرات المعاصرة إلى الولاياتالمتحدة. والنتيجة الثانية المترتبة على العولمة المتعاظمة هي توسع التأثير الأميركي في العالم. ويقدر عدد الأميركيين المهاجرين إلى خارج الحدود بحوالى 6 ملايين. ولعل الأزمة الاقتصادية والنمو القوي للبلدان الناشئة من الأسباب التي دعت الأميركيين الشباب والمتعلمين علماً عالياً إلى الإقامة بآسيا وأميركا اللاتينية. وبعض هؤلاء المهاجرين هم أبناء مهاجرين إلى الولاياتالمتحدة، وهجرتهم هي «عكس» هجرة أهلهم. وصرح 40 في المئة من الأميركيين البالغين 18- 24 سنة عن نازع إلى الهجرة، وقلة منهم قد تغادر البلد. لكن الرقم قرينة على تعاظم النازع. وزادت الاستثمارات الأميركية في الخارج من 100 بليون دولار في السنة في العشر الأخير من القرن العشرين إلى 200 بليون في 2009. فالاقتصاد والمجتمع الأميركيان متشابكان، على وجوه كثيرة، مع سائر بلدان العالم وأنحائه. واستجاب انتخاب أوباما، في 2008، لدواعي عولمة المبادلات والتداول، والدور المحوري الذي تضطلع به الولاياتالمتحدة في هذه العولمة. وهو حظي بتأييد الأقليات المتحدرة من الهجرات الأخيرة، مثل الإسبان الذين اقترع 76 في المئة منهم له، والآسيويين (62 في المئة)، والجماعات التي تتصل هوياتها وأنشطتها، على وجوه متفرقة، بعلاقاتها بالخارج (وهذا يصح في النخب الاقتصادية بوول ستريت). وحظي أوباما باقتراع شطر راجح من العمال الذين أنزل بهم انتقال مرافق صناعية كبيرة إلى الأسواق الناشئة ضرراً فادحاً، ولم تحمهم سياسة جورج بوش القومية من ارتدادات الانتقال. فأوباما كان مرشح العالم، ومرشح الأميركيين الذين تشغلهم أحوال العالم ومصائره وآثارها في «أميركا». فهل يستقيم القول، إن علاقات الولاياتالمتحدة بسائر بلدان العالم انقلبت من طور إلى طور في عهد أوباما، وتخففت من صيغها «الإمبريالية»؟ أثناء حملته الانتخابية قال المرشح إنه ينوي، في ولايته، «مخاطبة العالم مباشرة»، ووعد بتجنب الانعزال عنه، من جهة، وبتفادي «الخشونة» في معاملة البلدان الأخرى، من جهة أخرى. ويقتضي الوجهان انتهاج سياسة تعاون وتحالف، والإحجام عن أعمال القوة والتوسل بها قبل استنفاد وسائل الإقناع الأخرى. وأرفق المرشح وعده بآخر تعهد بموجبه زيادة المساعدة الأميركية للخارج إلى 50 بليون دولار في 2012. ولا شك في أن الانسحاب من العراق، في 2011 - وكان أوباما عارض الحرب على نظام صدام حسين وهو شيخ (سيناتور) عن ولاية إيلينوي – إنجاز يتصدر سياسته الخارجية. لكن الكلام على «عقيدة أوباما» أو «مذاهبه» في السياسة الخارجية الأميركية تجاوز على الوقائع. وكانت إدارة بوش، على خلاف الرئيس الحالي، بلورت صيغة واضحة استمدت عناصرها من المحافظين الجدد، دعت إلى اضطلاع الولاياتالمتحدة بمحاربة تهديد عالمي مصدره الإرهاب والديكتاتوريات المناوئة، وحدها ومن غير الرضوخ لشروط سياسة متعددة الأطراف توسط الهيئات الدولية في حل الخلافات. وتقر هذه العقيدة للولايات المتحدة بحقها في الدفاع عن نفسها من التهديد الإرهابي بواسطة الهجمات الوقائية، إذا اضطرت إلى الأمر. وتعهد إليها بحمل بلدان الشرق الأوسط على الديموقراطية حملاً «نشطاً». ولا تخطئ العين القسمات الإمبراطورية التي أطل بها وجه السياسة الخارجية الأميركية في مرآة الأيديولوجية المحافظة الجديدة. ونجمت عنها سياسة تدخل في آسيا الوسطى، وحرب شاملة على الإرهاب من غير قيود الوقت والمكان، وطموح إلى هيكلة الشرق الأوسط. وذكّرت هذه السياسة بمناخات الحرب البادرة في أوج احتدامها. وليس ثمة، منذ 2008 وتولي أوباما الرئاسة، ما يقارن بهذه العقيدة وتماسكها الأيديولوجي. فالرئيس الأميركي الحالي شاء الاقتصار على وجهة عامة هي أقرب إلى معيار عمل ومنهجه منه إلى عقيدة متبلورة. فهو عمد إلى تهدئة علاقات الولاياتالمتحدة المتوترة بشطر من العالم: بلدان العالم الإسلامي وروسيا والصين. وأحيا التعاون بين الأقطاب الدوليين والبلدان الأخرى. ويشارك أوباما بوش فهمه الأخلاقي ل «مسؤولية» الولاياتالمتحدة العالمية، وهو فهم موروث من المثالية الويلسونية. ففي سياق التدخل في ليبيا وتسويغه قال أوباما: «لا ريب في أن تنحي الولاياتالمتحدة عن مسؤولياتها التي وضعها على عاتقها دورها السياسي القيادي، وعن مسؤوليتنا حيال بشر آخرين، إنما هو خيانة لأنفسنا. فبعض الأمم في مستطاعه الانصراف عن الفظائع التي ترتكب في بلدان أخرى، والولاياتالمتحدة تخالف هذه الأمم الرأي والموقف». لكن الالتزام الأخلاقي وحده ما كان له أن يحمل أوباما على التدخل في ليبيا لولا مبادرة أوروبية. ومجمل القول إن أوباما لا يصدر في سياسته الخارجية، شأنه في سياسته الداخلية كذلك، عن نازع أيديولوجي. وهو ينتهج في الحالين سياسة حذرة وواقعية، يزنها بدقة وعناية، وينزع عنها المبالغات الكاريكاتورية التي أضفاها المحافظون الجدد على سياستهم، ويريد بواسطتها إحياء مكانة الولاياتالمتحدة في العالم. وهو حريص على هذه المكانة، ويدعوه إلى حرصه الحساب السياسي والحساسية الثقافية. ويشترك مع النخب الأميركية المتنورة في إدراك الضرر الذي يلحقه بالولاياتالمتحدة اعتدادها المفرط بقوتها العسكرية وازدراء الدول والبلدان الأخرى. والظن أن أوباما يريد دفن الإمبراطورية خطأ كبير. فهو حافظ على مستوى نفقات عسكرية لا يقره معظم أهل القانون على نحو ما صنع ويصنع في تعقب الإرهابيين بواسطة الطائرات من غير طيار. وأحجم عن إغلاق معتقل غوانتانامو على رغم وعوده، وتحسين ظروف الاعتقال. ويستحيل على الجمهوريين، بهذه الحال، تصويره في صورة المثالي الرخو، العاجز عن الدفاع عن مصالح البلد. فهو أمر بقتل بن لادن في عملية سرّية أشرف عليها من قرب ولم يوكل بها أحداً. وقد تؤدي المقارنة بين سياسته الخارجية وبين سياسة جيمي كارتر (1976 - 1980) إلى إيضاح بعض وجوه هذه السياسة: غداة حرب فيتنام، شأنها غداة حرب العراق، كانت الولاياتالمتحدة في وضع دولي حرج، وكانت الحاجة إلى إشراك الأقطاب الدوليين في سياسة مشتركة تقوم على مراعاة حقوق الإنسان ملحة. وفي أعوام ولايته، أبدى كارتر تشدداً في محاربة التمييز العنصري بجنوب أفريقيا، ومال إلى اللين في معاملة البلدان الصغيرة فرد إلى بنما سيادتها على منطقة القناة. وفي الوقت نفسه، اضطلع كارتر بدور حاسم في تحديث القوة العسكرية الأميركية، وأجاز عدداً من العمليات الحربية السرية في أميركا الوسطى وأفريقيا. وعلى مثال قريب، لم يُخرج أوباما الاستراتيجية الأميركية من منطق الإمبراطورية، لكنه عمد إلى إصلاحه بحذر. وينبغي أن يحسب له ما فعل. وهو يرى أن تصفية إرث سلفه الثقيل بأفغانستان تحتاج إلى ولاية ثانية يعهد، في أثنائها، بالمسؤوليات الأمنية إلى دول في المنطقة، الهند وباكستان. وفي الأثناء، يعقد معاهدات تعاون مع البلدان الناشئة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ويرسي علاقات «أميركا» الخارجية على محور المحيط الهادئ وجنوب الأطلسي. وفي آخر المطاف، قد يؤدي هذا المسار إلى طي صفحة السياسة الإمبراطورية الأميركية التي كان أولها في الفيليبين قبل نيف وقرن. * أستاذ محاضر في كلية دراسات العلوم الاجتماعية العليا صاحب «السود الأميركيون في طريقهم الى المساواة» (2009)، عن «ليستوار» الفرنسية، عدد خاص عن الولاياتالمتحدة صدر في 8/2012، اعداد منال نحاس