لم يكن برفسور جامعة هارفارد، صموئيل هنتنغتون أكاديمياً فحسب، بل هو أيضاً كاتب جاد ومثير للجدل لخروجه عن المألوف. ففي مجال الخلاف والنقاش الجدلي المتخصص، طرح هنتنغتون كتباً ذات موضوعات عميقة، لعل من أبرزها مقالته الموسومة «صراع الحضارات» التي نشرها عام 1993م، ثم أصدرها بتوسع في كتاب دوّى صيته في أنحاء العالم سنة 1996م. ولأنه استاذ في العلوم السياسية فقد عرف باعتناقه المبدأ القائم على الثقافة السياسية، في حين أنه دائماً ما يشير إلى نفسه على أنه العالم المحب لوطنه «الولاياتالمتحدةالأمريكية». بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، شعر العملاق الأمريكي بهزة لا يزال يترنح من أثرها. أما الشعب الأمريكي فلم يكن أقل خوفاً أو رعباً من حكومته، وهو المحب بشغف للحياة ونعيمها. ففي صيف عام 1994م لم يجرؤ الأمريكان على السفر للخارج - كعادتهم، وبحكم قوة الاقتصاد - بقصد السياحة، حينها قدم إليهم «هنتنغتون» كتاباً جديداً لا يروح عنهم، ولكنه يثير رعباً وجدلاً أكثر. طبعه في الهند، وعنونه ب «من نحن؟ التحديات المواجهة للهوية الوطنية الأمريكية» Who Are We? The Challenges to America`s National Tdentity، وصف الكتاب بالغموض أكثر من أي شيء آخر، لا لشيء إلا لأنه شاط وخارج عن المعتاد. في هذا الكتاب الجديد يدير هنتنغتون ظهره، ويتجه من الحديث عن الصراعات الخارجية، ليتحدث عن صراع داخلي وشيك، يرى أنه سيحل بوطنه، الولاياتالمتحدةالأمريكية. من نكون؟ كتاب يصور المؤلف فيه أزمة الهوية الوطنية على أنها صراع داخلي - داخل أمريكا - بين العالمية/ الشمولية Universalist وفقاً لمفهوم الثقافة المتعددة Multicultrad ونتيجتها تآكل في الوطنية وروح الشعب، وبين الثقافة الإنجلو-بروستانتية التي يرى المؤلف أنها بمثابة أصول وجذور وطن الأمريكا، وفقاً لمفهوم الاستيعاب/ الامتصاص Assimilation الذي يدعو فيه إلى تشرب وامتصاص هذه الثقافة. في مستهل الكتاب طرح المؤلف تساؤلاً مفاده «من هو الأمريكي؟»، ثم بنى على ذلك التساؤل فكرته الفريدة، وبطرحه المتميز. يتساءل هنتنغتون هل نحن مجتمع مكون من أفراد متباينين، اجتمعنا على قطعة أرض نحيا عليها؟ هل هناك هوية أمريكية حقيقية تربط المجتمع الأمريكي البالغ حوالي 280 مليون مواطن؟ لعل من أهم الأمور التي دعت المؤلف إلى طرح مثل ذلك التساؤل، تلك الأعداد الزاحفة من المهاجرين إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. فبغض النظر عن المهاجرين الأوائل من القارة الأوروبية، ثم موجة الهجرة التالية، وخاصة من أمريكا اللاتينية وآسيا بعد قانون إباحة الهجرة الذي أجازه الكونجرس الأمريكي عام 1965م، تعد فترة ما بين 1890 - 1924م المرحلة الساحقة في تاريخ الهجرة إلى أمريكا وفقاً للاحصاءات، حيث لا تزال آثارها واضحة إلى يومنا هذا. في الغالب يقول الأمريكان بأنهم، وفي منتصف هذا القرن - القرن الحادي والعشرين - سيصبحون وطن «الغالبية - الأٍقلية» حيث البيض من غير الاسبان سيكونون أقل من نصف السكان (50٪). ففي عام 2003م تحديداً فاق الاسبان من حيث العدد الأمريكان السود، المصنفون من أصول افريقية. كما قدم المؤلف مظهراً آخر وأكثر وضوحاً للهجرة ليظهر فيه انزعاجه تجاه الهجرة إلى أمريكا التي تلازمها - على حد قوله - نزعة تجاه الوطن الأم، والتي عادة ما تكون على حساب الوطنية والهوية الأمريكية. ينتقد هنتنغتون هذه الظاهرة بقوة مشدداً على أنها قضية تستوجب النظر والتمعن والمعالجة، يقول إن تلك الهجرات، وبطبيعة الحال، ولدّت أفكاراً غير متناسقة، وانتجت ازدواجية وطنية، ثم عدم توحد لغوي، إضافة إلى ثقافات متعددة من جانب، ومختلفة من جانب آخر. كل هذه المظاهر السلبية تنحت erode في المعنى الكبير للوطنية، وتضعف عملية اكتساب وتشرب الحس الوطني الأمريكي الذي يرى المؤلف بأنه مهدد في جوهره وهو الهوية. رغم أن الكتاب قوي في مضمونه، إلا أن الرسالة التي أطلقها المؤلف في ثنايا نقاشه الذي فرّق فيه بين من يسميهم العامة من الوطنيين والنخبة الخالين من القومية، من أبرز وأقوى محتويات الكتاب، إذ تنطلق هذه الرسالة إلى ما هو أبعد من فكرة الهجرة والاستيطان، فرغم الانقسام الواضح، وعلى مسار التاريخ الأمريكي بين الجمهوريين والديموقراطيين الذي تشتد أطرافه أحياناً فتصبح الهوة عميقة كما هو الوضع الان، إلا أن هناك انشطاراً بل وتصادماً بين مذهب أحادي الجانب، وبين التعدد المذهبي الذي تعاني منه السياسة الخارجية الأمريكية. خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كانت الوطنية مقياساً لإحداث التوازن بين الفاشية والنازية في أوربا. أما في أمريكا فقد كانت مقياساً لإحداث التوازن بين كره الأجانب - أو ما أسماه ب «رهاب الأجانب: Xenophobia» والغلو في الوطنية - أو ما أسماه ب «الشوفينية» Jingoism أصبح النقاش حول الوطنية موضوعاً يحفه أحد أشباح الليبرالية الحديثة، حتى أن رفرفة العلم أصبحت مؤذية أو مقززة. في السابق كان يُعرف الوطن وببساطة بما هو ضده، أي بمن يعيشون خارج حدود ذلك الوطن. فقدان الهوية الأمريكية يمكن مشاهدته في جميع طبقات المجتمع الأمريكي، بما في ذلك الليبراليون، حتى أصبح من الملاحظ ذلك الانشطار على المستوى الفردي أو حتى على المستوى الحكومي. وبالاجمال، نخب الأمريكان تفتقر إلى الوطنية فضلاً عن كونهم ليبراليين أكثر من غيرهم ومن العامة أيضاً. وباختصار يرى المؤلف ان الغالبية الساحقة من الأمريكان تستطيع التغلب على العوائق التي تحول بينها وبين الحصول على عناصر الهوية الوطنية إلاّ انه لم يقدم دليلاً مقنعاً لذلك التوقع الذي بنى عليه ان المؤشرات تقول ان المجتمع الأمريكي لم يعد يرى ذاته أمريكياً، أو على الأقل وفقاً لما يأمله هو -هنتنغتون-. ٭٭٭ لا يوجد تعريف لفكرة ليبرالية النخب أفضل من المفهوم الحديث لمذهب التعددية الثقافية أو المذهب التعددي الذي قدمه «هوراس كالين» في بداية القرن العشرين. يرى المفهوم الحديث بأن استيعاب assimilate أو تشرب ثقافة أخرى أمر خاطئ. وكأن هنتنغتون يريد ان يقول بأن المهاجرين يسعون إلى التخلص من ثقافتهم على حساب الثقافة الأمريكية التي يرون أو يعتقدون بأنها الأعلى أو الأفضل. والمحصلة ان الأمركة ولدت إكراهاً، أو استيعاباً قسرياً، ورغم شعبية رياضات أخرى في أمريكا، الا أنه من الأفضل ضرب المثل برياضة كرة القدم، فحينما تكون هناك مباراة بين المنتخب الأمريكي ومنتخب آخر فالمهاجرون ستظهر عليهم علامات الوطنية نحو منتخب بلدهم الأصلي أو الذي ولدوا -بكسر اللام- فيه. ولعل فكرة الكتاب الرئيسة هي أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تبرز وبشكل و اضح كثقافة انجلو -بروتستانتية، والتي تحتوي عناصرها على الإنجليزية كلغة، وعقائد دينية مستمرة من البروتستانتية، ومفاهيم انجليزية قائمة على القانون الوضعي، إضافة إلى المذهبية الفردية المتطرفة القائلة بأن جميع القيم والحقوق والواجبات تنبثق من الأفراد وليس للحكومة أوالمجتمع سيطرة أو رقابة. بشكل اجمالي، الكتاب يوجه وابلاً من النقد تجاه مذهب الثقافة المتعددة. أو الا ختلاف والتنوع، وفي الوقت ذاته، يتجرأ المؤلف فيشاجر أولئك الأمريكان المعتقدين بأنهم مترابطون وبشكل وثيق، بواسطة العقائد التي سماها «قانون الإيمان المسيحي الأمريكي» المتفقة مع فكرة أحد المتأخرين «ريتشارد هوفستادتر» القائل بأن من قدر أمريكا كوطن ألا يكون لها عقائد أو أفكار خاصة، ولكن من قدرها أن تكون منسجمة أو متحدة، تم يرتد المؤلف منتقداً ذلك القانون «قانون الايمان المسيحي الأمريكي» على أنه في ذاته منبثق عن الثقافة الانجلو -بروتستانتية. والمحصلة النهائية والمنطقية لذلك، أن قانون الايمان المسيحي الأمريكي يقتضي ضمنياً بأن أي إنسان في هذا العالم يؤمن بتلك العقائد التي نصت عليها وثيقة التشريع الأمريكي والليبرالية الديموقراطية هو وبشكل اوتوماتيكي «أمريكي» وعلى هذا تكون الواطنية ليس لها معنى، وتكون أمريكا عالم، في الوقت الذي يجب فيه أن تكون وطناً! من المعروف لدى المهتمين بحركة التأليف، ولدى الاكاديميين ايضاً أن الكتابة عن موضوعات مقننة ومحددة أسهل من الدراسات والمقالات العلمية المطولة أو ذات الأفق الواسع التي تظهر فيها الثغرات أو المتناقضات، وبالتالي يسهل نقدها، وهو ما لايحبذه الانسان، حتى لو كان أكاديمياً الإ أن هنتنغتون يراهن بل يقامر دائماً عند طرح أفكاره، والتي منها مؤلفه الجديد الذي يتساءل فيه «من نحن؟» فمن أفكار الكتاب الرئيسية التي طرحها، مفهومة الخاص للثقافة الانجلو -بروتستانتية، التي يسندها إلى المهاجرين الأوائل من الانجليز، على أنهم مستوطنون settiers، كونوا مجتمعاً إنسانياً جديداً، وذلك إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، ثم نقده اللاذع لطريقة احتواء المهاجرين المتأخرين بوصفهم مهاجرين immigrantsوذلك خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، والتي يظهر فيها -الفكرة- شيء من التناقض أو عدم التماسك من حيث اختلاف النظرة تجاه ذلك الجيلين من المهاجرين أولاً، وثانياً أن أمريكا لم تكن خالية تماماً حينما جاء المستوطنون الأوائل. وعليه تكون فكرة هنتنغتون صحيحة جزئياً، ولكنها زائفة كلياً، حسب المقولة الغربية المعروفة. لم يكن مفهوم الاستيعاب، الذي يعد واحداً من أهم موضوعات الكتاب، بالمفهوم الجديد في ساحة النقاش، إذ استثنينا المفهوم الكثير من الكتاب، ولكن ليس بمستوى التشاؤم الذي تناوله «هنينغتون»، ففي كتاب «ريتشارد البا وفيكتور ني» الذي حمل عنوانه ومتنه فكرة ورؤية الاستيعاب بالنسبة للمهاجرين المعاصرين محملاً متفائلاً مثلما حمله تجاه المهاجرين الأوائل إلا أن هنتنغتون يتناول مفهوم الاستيعاب بأسلوبه الخاص بطريقة غريبة ليقنع القراء والأمريكان تحديداً، وكأنه يقص صورة لرأس إنسان ويلصقها على صورة أخرى، ليقنع الآخرين بأن الصورة لإنسان ذي رأسين يرى أن المفهوم إيجابياً للمهاجرين الأوائل. سلبياً للمهاجرين المتأخرين، منتقياً المهاجرين المكسيكيين تحديداً، وكأن أمريكا التي يحب «هنتنغتون» لم تستفد منم في حربها، أو ربما احتلالها غير المبررين في العراق، وكأن المكسيكيين الذين وقعوا ضحايا هناك مقابل الحصول على الجنسية الأمريكية ماهم الا عبء على الهوية الأمريكية! ٭٭٭ مابين سطور الكتاب يحذر المؤلف وبشكل مبهم، وكأنه يبعث برسالة إلى وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» قائلاً بأن المكسيكيين يرون الوقت قد حان لاستعادة الأراضي التي انتزعت منهم بالقوة عام 1840م. مشيراً إلى تفكك سيحل بالولاياتالمتحدةالأمريكية مع عام 2025م بادئاً من كاليفورنيا على غرار سيناريو تفكك الاتحاد السوفيتي، وكأن تحذيراته إذا لم تؤخذ مأخذ الجد، فإن كاليفورنيا ستعود إلى المكسيكيين، وسيحكم الكوبيون ميامي «فلوريدا»، وستصير ميتشجان مسلمة، ليس بعيداً المؤلف من هذه الأفكار، ولا حتى الكثير من الأمريكيين أيضا، وهذا ربما يكون سرا من اسرار نجاحاتهم ، وهو أنهم يفكرون في كل شيئاً وفي كل شيء يفكرون، فالخوف من الارهاب والعولمة المعاكسة للسياسية الأمريكية، والأقطاب الأخرى المضادة كالصين، روسيا والاتحاد الأوروبي كلها تعترف بها أمريكا وتتعامل معها في شكل تحدٍ يقوي جانبها بدلاً من الضعف أو الانهزام والتخاذل. الأمريكيون اليوم يحسبون أيام الخمسمائة عام التي فصلت سقوط دولة الجمهورية وانهيار الامبراطورية في روما، يقارنون بين الحرب الباردة التي عرفوا فيها من عدوهم تحديداً، وبين الحرب على الارهاب التي ما زالوا يبحثون فيها عن عدو حقيقي يمكن مشاهدته ثم مواجهته حسب المذهب العملي الأمريكي المعروف Pragmatism.