فرانسيسكو توليدو هو أحد أهم فناني أميركا الجنوبية المعاصرين، وبين أكثرهم شهرة وارتباطاً بتراثه. ينتمي إلى مقاطعة أوكساكا في المكسيك، لأب وأم من السكان الأصليين. نشأ توليدو في هذا الإقليم الذي يضم بين جنباته إحدى أقدم الحضارات المعروفة للهنود الحمر في أميركا الجنوبية، وهي حضارة «الزابوتيك» التي ازدهرت لقرون في الجنوب المكسيكي حتى بداية العصر الكولومبي الذي سبق اكتشاف أميركا، وأثر إنتماؤه هذا في نظرته للأشياء والطبيعة من حوله، متأثراً إلى حد ما في أعماله بالعقيدة الشامانية التي آمنت بها غالبية القبائل الهندية في أميركا الجنوبية، والتي تؤمن بتناسخ الأرواح وتعدد الحيوات ووحدة الطبيعة. حين عُرض بعض لوحاته في مركز المثّال محمود مختار في القاهرة ضمن أسبوع للاحتفاء بالثقافة المكسيكية قبل أعوام، كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها أعماله من قرب، لوحات تحمل الكثير من الخيال والدهشة، تتوالد العناصر على سطحها في تشابك مدهش، لترسم صورة قريبة لعالم عجيب. ذئاب وحملان، طواويس وأبناء آوى، كلاب وطيور ملونة، كائنات أثيرية لم تُر من قبل، في أشكال وسمات لا حصر لها، تتعايش جميعها من دون خوف. على سطح اللوحة، ثمة عبق لأزهار، لا تنمو إلا في أدغال تلك الأراضي البعيدة، وأصوات غناء بدائي لقبائل بائدة، تحكي تاريخ الأسلاف، بمزيج من الشجن والسعادة. أعمال تعتصر الحاضر والماضي، تتحايل على الخيال، لتصنع حولها ذلك الرونق المستدفئ بضوء الشمس. يطل فرانسيسكو توليدو من أقصى قرى المكسيك الجنوبية النائية، حيث تسكن قبائل السكان الأصليين لأميركا الجنوبية. خرج توليدو من رحم هذه الأجواء متأثراً بنظرتها للطبيعة والكائنات من حولها، وعلاقة العناصر بعضها ببعض، هذه العلاقة التي تسبح في دورة لانهائية في الوجود، دورة أبدية، يتخذ فيها الروح شكلاً مختلفاً في كل مرة يولد من جديد. من رحم هذه الثقافة النائية، جاء هذا الفنان، لا يحمل من ثقافة الغرب سوى اسمه الذي جاء به المستعمرون الأوروبيون إلى بلاده. حتى ذلك الاسم الذي يحمله، يشير إلى حضارة أخرى، سلمت مفاتيح مجدها قبل قرون في غرناطة وطليطلة، أو «توليدو»، كما ينطقها الإسبان، تلك المدينة الأندلسية الكبيرة التي كان لها شأن في غابر الأزمان العربية. فنان معروف بتعدد وسائطه الإبداعية. فهو إلى جانب ممارسته الرسم والتصوير، يمارس النحت والخزف أيضاً، كما أن لديه اهتماماً بالحِرف اليدوية والشعبية، غير أنه عرف تحديداً برسومه للحيوانات. تلك الرسوم التي يبحر من خلالها في عالم الحيوان، والكائنات الصغيرة، باحثاً فيه ومنقباً خلاله عن كل ما هو غريب ومدهش. وصنع توليدو لنفسه أسلوباً مميزاً بسلوكه الفني الخاص، الذي يجنح فيه إلى ابتكار صياغات مختلفة لعناصر الطبيعة، ليشكل بها عالمه الخيالي، هذا العالم الذي ينتمي إليه وحده. فهو سمح لنفسه عبر سنوات تجربته الفنية الممتدة منذ بداية الستينات من القرن الماضي، أن يقوم بالدور نفسه الذي تلعبه الطبيعة في نحت، وتشكيل العناصر وابتكارها، فهذه الكائنات في لوحاته، هي في الغالب كائنات هجينة، تستعير وجودها من خيالات الفنان وجموحه، ابتكرها هو، ووضع لها مقومات وجودها، وسياق حركتها وانفعالاتها وعلاقاتها في تداعيات غزيرة، ومنهمرة على مسطح اللوحة. والمتأمل أعماله المرسومة لعناصر الطبيعة، لا يشعر أبداً بالسأم من هذا التكرار، فالأعمال في جملتها تتسم بالحيوية والاستغراق في عالم من الخيالات، والأساطير المثيرة والمحببة، وفي مسحة إنسانية لا تخلو من الرموز والدلالات والإسقاطات المتعددة. وهو يعد إحدى العلامات الفنية والثقافية لدولة المكسيك، ولا يمكن الحديث عن فنون أميركا الجنوبية، من دون التطرق إلى تجربة فرانسيسكو توليدو الإبداعية، في تمثل روح أميركا الجنوبية، والمكسيك تحديداً. فقد تمعن توليدو جيداً في الفنون الشعبية المكسيكية، وراح يرسم كما يحلو له، انطلاقاً من هذا الموروث الشعبي. لكن الأهم من هذا هو ارتباط ذلك الفنان بمجتمعه، ذلك الإرتباط الذي ترجمه هو عملياً في شكل مجهودات وأنشطة ومشاريع ثقافية، كان لها الفضل في تحويل مسقط رأسه «أوكاساكا» إلى أحد المراكز الثقافية والأدبية في أميركا الجنوبية. كرس توليدو الكثير من ماله لتنمية المجتمع المحلي في موطنه أوكاساكا، فهو مروج للفنون، وراع للكثير من مكتبات الأطفال في المجتمعات الهندية الفقيرة، ومؤسس متحف الفنون في بلدته القديمة التي لم تعرف من قبل وجود مثل متاحف فنية، وهو ناشر قيم الفن عبر مشاريعه ونشاطاته المتعددة التي يرتبط معظمها بمجتمعه. وهو يعد من أكثر المنادين بالحفاظ على التراث الثقافي والفني والمعماري في المكسيك، من طريق بث الوعي الفني والجمالي وتوعية سكان المدن بأهمية الحفاظ على الطبيعة والتمسك بهويتهم الثقافية، فكان معارضاً على سبيل المثال، بناء الفنادق الضخمة في بلدته، وقاد حملة في تسعينات القرن الماضي، من أجل منع افتتاح أحد منافذ سلسلة مطاعم «ماكدونالد» بالقرب من «مونتالبان»، وهي المدينة المقدسة لدى السكان الأصليين. وإقليم أوكاساكا الذي خرج منه توليدو، هو نفسه الذي خرج منه تامايو روفينو، وهو الذي أسس لقيم جديدة في التعبير الفني، خاصة بسكان المكسيك وأميركا الجنوبية عموماً. فقد حملت أعمال توليدو، وتامايو روحاً جديدة، ونوعاً من الطاقة الباطنية الفريدة التي اتحدت مع الجمال الطبيعي في بيئتهم الأصلية لتخلق عالماً فنياً خاصاً بهما، وإن كان كلا الرجلين استعار تقنياته من الحركات الأوروبية والأميركية، إلا أنهما ظلا محتفظين بروح مستقلة وثابتة خاصة بهما. درس توليدو الفن في المكسيك، قبل أن يسافر إلى أوروبا بحلول عام 1960، وظل هناك طيلة خمس سنوات متجولاً في البداية بين أنحاء أوروبا، ومتاحفها ومعاهدها الفنية، ليستقر أخيراً في باريس، ولم يقضِ وقته هناك في البحث في المدارس الفنية الطليعية في ذلك الوقت، بل انهمك في العمل بورشة الفنان الإنكليزي ستانلي وليام هانتر، وهو أحد أهم رواد فن الطباعة في القرن العشرين، وعلى يديه، تعرف توليدو إلى تقنيات فن الحفر على أصولها، وحين عاد إلى المكسيك، كان قد استوعب ذلك الفن جيداً، وصار أكثر تمكناً من التقنيات الخاصة به. وتعددت وسائطه، من الحفر، والليثوغراف، والنحت، والرسم، واستغرق متطوعاً في وضع تصاميم للمفروشات التي كان يصنعها الحرفيون في ورش الأقمشة والسجاد المنتشرة في أوكاساكا. عرضت أعماله للمرة الأولى في باريس عام 1973، وفي السبعينات أيضاً عرضت أعماله في معرض خاص في مدينة نيويورك. وكثير من العناصر التى ميزت أعمال توليدو، كالحشرات والخفافيش والقطط والكلاب والطيور، كلها مستقاة من الطبيعة في مسقط رأسه. كما تبلورت أيضاً في فترة السبعينات اتجاهاته في رسم الأشكال العارية، مع وجوه هندسية تشبه الأقنعة القديمة. أعمال توليدو تسجل الأشياء والعناصر الطبيعية، ولكن في مناخات شبه أسطورية، تضعها خارج قوانين الطبيعة، فتبدو للمتأمل أشبه ما تكون بأحلام اليقظة. هو يجمع في أعماله بين الحلم والأسطورة المستقاة من حكايات أسلافه وتاريخهم، ويؤسس لواقع خيالي، وميزته تكمن في قدرته على إقناعنا بأن عالمه الخيالي هذا موجود بالفعل، بل ربما أكثر صدقاً من الواقع المعاش.