أحكم سالم محمد ربط صرة من القماش الأبيض الخفيف جيداً، قبل أن يسند ظهره إلى آلة شعبية، تدعى «الكر»، يستخدمها المزارعون لتساعدهم على الوصول إلى قمة النخلة. كان سالم ملأ صرته بلقاح النخلة المعروف ب «النبات»، الذي استخرجه من نخيل «الفحّال». وتحمل عملية التنبيت خصوصية لدى مزارعي الأحساء، لدقتها وتأثيرها المباشر على ثمر الرطب (البلح)، ويعتمد عليها الإنتاج كماً ونوعاً، وأي خطأ فيها قد يكلف المزارع ثمار نخلته لعام كامل. وكعادة كثير من المزارعين في كل موسم «لقاح»، قرأ سالم آيات من القرآن قبل أن يصل إلى مرحلة التلقيح، ولهذا سبب بحسب قوله «كي تحل البركة على محصولي»، مضيفاً «عملية التنبيت، أو التلقيح، قد يظن البعض أنها صعبة جداً، لكنها تعتمد على الخبرة والدقة والتوفيق معاً، ويتم التنبيت يدوياً من طريق وضع «الشماريخ» الذكرية (الأزهار الذكورية)، في قلب الطلعة الأنثوية، وبسبب تفاوت مواعيد تفتح الطلعات الأنثوية، زمنياً يستدعي ذلك صعود النخلة لمرات عدة، تتراوح بين مرتين إلى أربع، لإتمام التنبيت وضمان الحصول على إنتاج وفير». ويقوم المزارع بضرب الصرة التي تحوي اللقاح، لتسقط الحبوب التي تكون على شكل غيمة بيضاء، على مياسم الأزهار الأنثوية، ثم يقوم بربط «الأغاريض» بخوصة في الجزء العلوي، ربطاً خفيفاً غير مؤذٍ، بعد وضع الشماريخ الذكورية في قلب الأغاريض. ولا يزال أصحاب المزارع يفضلون التلقيح اليدوي على الآلي، الذي انتشر أخيراً، ليسد النقص في اليد العاملة وكلفتها العالية. وشهدت الأسواق الشعبية حضوراً لافتاً للقاح، فيما شهدت أسعاره ارتفاعاً، بحسب جودته. ويستطيع المزارع المتمرس تمييز النوع الجيد من الرديء، ليقوم المزارعون بفتح المزاد عليها، وسط أجواء تشبه إلى حد كبير البورصة في أسواق التداولات. ويضع المزارعون ما يزيد من شماريخ النبات (اللقاح) في مكان مكشوف مواجه إلى أشعة الشمس، حتى ييبس، ليتمكنوا من استخدامه فيما بعد، وليبق صالحاً لفترات طويلة. ويصف المزارع حسن الرويضي، عملية التلقيح ب«الممتعة جداً». ويقول: «بعد قلع الطلع من النخل الفحل، نقوم بسحل أو تقطيع الطلع إلى أعواد، ثم نربط بسعف النخيل من أربع إلى ست أعواد من الطلع، بحسب نوع النخلة، ونخلط الطلع اليابس بالرطب، وهذا أفضل بكثير، ويعطي نتائج مميزة، ثم نتوجه إلى النخلة الأنثى عند طلعها مباشرة، ونضع النبات، وهو طلع الفحل، ونربطها بعد ذلك بسعفة النخيل، وهكذا تتم العملية». وتنشئ بين المزارع والنخلة في هذه الفترة «علاقة جميلة وكبيرة»، بحسب وصف الرويضي، الذي يشعر أنه «طبيب نساء وولادة، ساهم في إنجاح حمل سيدة عاقر»، ولهذا يكون للرطب (البلح) والتمر فيما بعد، طعم خاص بالنسبة للمزارع، الذي قام بعملية التلقيح هذه. ويشير إلى أن الأمر كان يتم في السابق «بصورة أكثر متعة وخصوصية، بعد أن يجتمع المزارعون في المزرعة، وهم يرددون الأغاني والأهازيج الشعبية المرتبطة بموسم التنبيت، وكانت الأجواء تشبه الاحتفال الموسمي. أما الآن، فالأمر يتم في الغالب على أيدي العمال الوافدين». ويحدد أجر العاملين في التنبيت بحسب عملهم، إلا أن الأجر مضاعف بالنسبة لمن يتسلق النخلة، ويقوم بعملية التنبيت. كما يحدد الأجر بحسب سمعة المنبت زراعياً، وهناك أسماء اشتهرت في الأحساء بهذا العمل. وتحمل هذه الفترة أهمية كبرى، لكون الموسم بأكمله متعلقاً بنتائجها. وعكف مزارعون على تدريب جيل جديد من المنبتين، منهم علي الشواهب، الذي يقول: «حدث ذلك بعد القلق الذي ساور مزارعين من انخفاض مستوى الاهتمام في الزراعة بوجه عام، والتنبيت بصورة خاصة، فنحن نشهد صداً كبيراً من المزارعين الذين أوكلوا المهمة للعمال الوافدين، وهؤلاء لا يقدمون نتائج جيدة، مثلما تقدمها الأيادي المحلية». ويتمنى الشواهب، أن تكون هناك «دورات تدريبية تتبناها جهات زراعية، حتى لو كانت من القطاع الخاص، لتدريب أجيال على هذه العملية المهمة»، مؤكداً أن هذه الخطوة «ستحقق نجاحات كبيرة للمحافظة على هذا الإرث الاجتماعي المهم».