لئن اختار بضعة شعراء وروائيين، ومنهم على سبيل المثل الروائي ج. م. كويتسي الفائز بجائزة نوبل، عنوان قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس «في انتظار البرابرة»، منطلقاً لأعمال لهم أو نصوص، فالشاعر السوري بشير البكر عمد الى «معارضة» هذه القصيدة القصيرة ليكتب ما يقارب ديواناً سمّاه «عودة البرابرة» (دار النهضة العربية 2014). رواية كويتزي «في انتظار البرابرة» دارت احداثها في إحدى ممالك الصحراء، والقصائد التي استعارت عنوان كفافيس اكتفت بما ارادت أن ترمز اليه، أما البكر فاستهل ديوانه بقصيدة يلوم فيها كفافيس ويعاتبه «مكذّباً» رؤياه وفاضحاً «خدعته» في شأن عدم عودة البرابرة، ويخاطبه قائلاً: «كذبت رؤياك ايها الشاعر/ كنت تظن أنهم اشباح في البعيد/ خدعت العامة حين قلت لهم/ لن يأتي البرابرة/ لكنهم خرجوا من بيننا/ في غفلة القصيدة». كان كفافيس أعلن في ختام قصيدته الشهيرة تلك عدم مجيء البرابرة الذين كان حكام الامبراطورية وشعبها في انتظارهم، وقد حزنوا لعدم مجيئهم، بعدما تهيأوا لاستقبالهم وللاحتفاء بهم. وهو يستهل القصيدة قائلاً على لسان الجماعة: «من ترانا ننتظر مجتمعين في الساحة كلنا؟/ يقال إن البرابرة سيأتون اليوم». وفي نهاية القصيدة يهبط الليل ولا يأتي البرابرة ويعلن بعض العائدين من الحدود أن البرابرة لم يأتوا لأنهم ما عادوا في الوجود. أما برابرة البكر فهم يعودون من قلب التاريخ والواقع، ليعيثوا الخراب ويمعنوا في أفعال القتل والتهجير والتدمير... استهلال جميل جداً هذا الذي اعتمده البكر في ديوانه منطلقاً من كذبة كفافيس البريئة، ليكتب «قصائد» البرابرة الاهليين (البعثيين والطائفيين) الذين غزوا سورية ومناطقها أو تخومها، ويرصد شعراً حركة صعودهم الرهيب والرعب الذي نشروه والدم الذي أراقوه. لكنّ البرابرة وفق الشاعر، ليسوا أهليين فقط بل سبقهم برابرة آخرون، «ميليشيات» بربرية ب «ألبسة مموهة» و «أفرادها يتحدثون لهجة غريبة» هي العبرية، و «كان ذلك قبل أن تسقط الجولان / ويذهب اخوتنا اسرى/ يهدوننا السلام عبر إذاعة العدو». ولم يكن على البرابرة الاهليين إلا ان يبدأوا بعد هزيمة حزيران 1967 في «بناء سجن فسيح / فوق التل العالي على أطراف المدينة». تحل أطياف «البرابرة» الاهليين والجدد، على قصائد كثيرة في الديوان حتى لبدت هذه القصائد كأنها ساحة لمواجهتهم شعرياً، ولكن برقة هي رقة اللحظة المأسوية، وعذوبة هي عذوبة الشعر المجروح والمفعم حنيناً. لا يرتفع صوت الشاعر هنا ولا تعلو نبرته كما درجت العادة في القصائد السياسية الغاضبة والمناضلة، بل هو اختار الوتيرة الخفيضة والغناء الخافت الطالع من عمق التجربة الذاتية، تجربة الالم والاقتلاع والغربة، تجربة مقاساة الموت المأسوي، الفردي والجماعي. ولا ينثني الشاعر عن استعارة صفة المراثي ليرثي أرضاً وماضياً وشعباً: «مرّ الربيع الثالث / ولم نكفن موتانا بعد/ نما الزرع تحتهم/ وهم ينتظرون في العراء». وعلى غرار مأساة أنتيغون (سوفوكل) يرسم ما يشبه مشهد القبور المفتوحة والجثامين التي لا تجد من يدفنها: «في نهاية المطاف / لا حاجة لنا/ كي نحفر قبورنا/ طالما ان الحرب لم تنته». هذه الحرب، لم يعد احد فيها «يكترث بالدماء» من «شدة القتل». هذه الحرب، هي وفق الشاعر امرأة ثكلى تجلس «في ثيابها المرقطة /على شرفات المنازل/ صاحية طيلة الوقت / مثل سيدة / فقدت أولادها الثلاثة». بشير البكر، ابن الجزيرة السورية، لم يتمكن من هجران أرضه الاولى التي بات من عادتها مع الغزو البربري، ان «تطرد الابناء» كما يقول، فهو يدرك جيداً ان «لا شفاء من الصحراء» التي «وحدها بلا خطيئة». وليس مستغرباً البتة ان يستيقظ فيه شجن الماضي الجميل، شجن الريف في الحسكة، كما في الخابور حيث كانت الام «قرب تنانير الخبز»، تشارك النسوة «تجفيف الباميا» و «عصر البندورة» في ظلال أشجار العنب. وعلى رغم خروجه الباكر من سورية، وتجوابه المدن والعواصم العربية والغربية، وتبعثر حياته بينها، ظل الشاعر مشدوداً الى ارضه الاولى، بفقرائها وفلاحيها وحقولها وأنهارها وأشجارها، ومكث مشغوفاً بحب البلاد التي اضحت بعيدة والتي من شدة البعد «لم تعودي بلادي»، كما يقول. لكنه ما كان ليصدق مثل هذا الحكم المشبع عتباً، فهو لا يلبث ان يخاطب بلاده: «يا سورية تخنقني الكلمات/في الصباح/ أود لو تأتين/ كي نشرب القهوة على الرصيف». غير انه يعلم أن الموعد مع سورية لن يتم، ففي «الطريق اليها دم / وأنا حزين/ كماء الحقول في العشيات». ويخص مواطنيه المعذبين بقصيدة يسميها «السوريون» وكأنّ صفة «السوري» باتت كنية تخفي في صميمها معنى جديداً للمواطنية، مواطنية الألم والجوع والاقتلاع والتشرد، ويقول: «كل هذا الموت / لم يكن بالحسبان /حين استفاق السوريون / ظنوا أنهم ماتوا/ أكثر مما ينبغي». ويقول في قصيدة أخرى في ما يشبه الكلام المباشر الذي يفيض ألماً وحنيناً: «خائف على سورية / قلبي يؤلمني / كلما رأيت سورياً مكسوراً». كتب بشير البكر قصائد الديوان بدءاً من العام 2011، عشية انطلاق «الربيع العربي»، متنقلاً بين مدينة وأخرى، بين بيروت ولندن وأبوظبي وباريس...، علماً أنه يدرك أن «لا أرض لي ولا ظلال»، ولعله خبر خلال هذا التطواف بين الامكنة الغريبة أن كل مستقر انما هو «مر المذاق». وحين اعاد ترتيب «الايام التي سقطت سهواً في المطارات» كما يقول، كان لا بد له من ان يجد عمره واقفاً خلفه، هو الذي كأنه دوماً «على سفر»، النهار طريقه، ينزل درج الزمن «كمن يتهجى المشقات/ بين مسافرين غرباء». لكن هذا الغريب كتب عن المدن التي عبرها وأقام فيها قصائد جميلة تليق بها وبه، بصفته الشاعر العابر أبداً. ومثلما كتب عن بيروت كتب أيضاً عن جوزف سماحة، أحد وجوه بيروت الغريبة عن نفسها، جوزيف صديقه الذي مات ميتة مفاجئة وصامتة. ومن القصائد الجميلة والرقيقة الحواشي قصيدة «كل هذا الليل» وفيها يختلط الحب بالأسى، الشوق الى المرأة الاولى والحنين الى الارض الاولى: «لي الرثاء ولك الشجن/ عندما تضعين رأسك بين يديك وتبكين / قرب قميصي المعلق في فناء البيت». ديوان «عودة البرابرة» هو من عيون الدواوين السورية القليلة الصادرة أخيراً التي جعلت من المأساة السورية تراجيديا شعرية حديثة. لكن الديوان هو أيضاً وقبلاً ربما، من عيون الدواوين التي تترك في القارئ أثراً لا يمحى وعلامة تدل إلى ان الشعر قادر على ان يتحدى البرابرة، بالصوت الغنائي الخفيض والهادئ والمجروح والعميق عمق صيحة الارض عندما يغسلها مطر الدم.