يقترب صوت الاشتباكات والقصف شيئاً فشيئاً، حتى تبدأ الأرض تهتز، وتكاد النوافذ أن تتحطم من قوة الانفجار، منذ أيام لم يخرج مع زوجته وأبنائه وبناته من المنزل، كانوا على أمل أن تنتهي المعارك قبل أن تصل إلى حيهم، لكن هيهات... هيهات! يتذكر الرجل الذي كاد أن يكمل الخمسين، ما مرّ به حتى استطاع تأسيس أسرته هذه. يجمع أطفاله السبعة حوله وهو يحاول أن يحيطهم جميعاً بذراعيه، وقد تكوموا في أبعد زاوية في البيت عن مصدر أصوات القذائف، يمسح دموعهم ويسكن ارتجاف أجسامهم التي تجفلها القذائف المتبادلة. لم يعد في البيت طعام، والماء والكهرباء انقطعتا منذ أيام، ولم يعد هناك إمكانية للانتظار والمعارك تقترب، يحاول الأب الخروج لكن زوجته والبنات يمنعنه، يتمسكن به والدموع تنهمر على وجناتهن، يردد بغضب ويأس لا يمكنني الانتظار أكثر، لن أدعكم تعانون من الجوع أمام عيني. زوجته وأم أطفاله السبعة تطل على المشهد كله، متكئة على برواز الباب المقابل، منهكة من الخوف على كل هؤلاء الذين تحبهم، تشفق عليهم من نفاد الطعام، الذي جعل إفطارهم الماء، وشيئاً من العدس المسلوق، والرعب الذي يشلها لمجرد أن تتصور زوجها يسير في تلك الدروب، التي لا بدّ أصبحت أبنيتها مرشوقة بقناصة لن يتركوا حياً إلا قتلوه. أيامٍ عدة مرّت والطرق مقفلة، والمعارك لا تهدأ، لتقترب أكثر وأكثر، ويزداد وقعها اشتداداً، لكن أمراً غريباً حدث ليلة الجمعة، لقد تسارعت وتيرة القصف في شكل مروّع، حتى الصباح الباكر، ثم حلّ ما يبدو وكأنه هدوء. كان هدوءاً سبق واختبره «أبو بكر» في أحداث مقديشو. لقد علم أنه ما يسبق الإعصار. كان متمدداً في ضعف، وجوع الأيام الماضية قد أنهكه بعض الشيء، لكن فكرةً ما اصطدمت بوعيه فجأة، فاندفع ينادي زوجته، دخلا إلى غرفتهما، وأغلق الباب خلفه. أجلسها بجواره على السرير ووضع يده على رأسها لبرهة، وهي مطأطئة لا تريد أن تنقل الخوف الذي يسكن عينيها إليه، وسألها بصوت متهدّج: إلى هذا جلبتُ أطفالي؟ أسفي على سورية هذا البلد الباسم والشعب الجميل، لا أستطيع أن أترككِ والأطفال لتعانوا أكثر، ولو أدى ذلك لأن ألقى وجه الكريم، لا سامح الله من جعلنا ضحية كل مجرم... جهّزي الأطفال... سنغادر، شجعيهم فأنتِ مصدر قوَّتهم. فرّت دمعة انسابت على خدها، كفكفها برفق ورفع رأسها، لترى نظرة التصميم والثقة بالله التي ملأت قلبه. وقفت ماسحة دمعة أخرى، ثم خرجت مسرعة تحثّ البنات والأبناء على الاستعداد للخروج. خرج إليهم الأب يخبرهم بما سيحدث قائلاً: لن نجد سيارات تحملنا وسنسير مسافة طويلة، أريدكم أن تكونوا أقوياء لنصل إلى مخرج من هذه البلدة، وستكون الأمور على ما يرام، توقفت زوجته للحظة وكأن شكوكها ومخاوفها قد عاودتها، لتشلها وتجعلها عاجزة عن التصرف، اقترب منها مبتسماً برفق، وقال لها إننا مختلفون عنهم في منظرنا، واليوم الجمعة وقد هدأ القصف، ولا أحد من طرفي القتال ستكون له مصلحة في إيذائنا، فلسنا سوى ضيوف على هذا البلد الطيب. هيّا هيّا فلنذهب بسرعة، سنحتاج إلى ساعة تقريباً لنصل إلى خارج البلدة، وبعدها سنبلغ الطريق العام، وسأتدبر ما نركبه لاحقاً، لا تحملوا معكم شيئاً سوى أهم ما نملك، لا تأخذوا الثياب أوالأحذية، فقط المستندات وحليكم البسيطة والهواتف. تم وضع كل شيء في حقيبة ظهر، وما زاد عنها وضعته الأم في كيس أسود متوسط، أصرّ «أبو بكر»على حملهما، فذلك كل ما سيبقى من ممتلكات لهذه الأسرة. نهض الأب بحماسة وقال: سننطلق الآن ولن يؤذن لصلاة العصر إن شاء الله إلا ونحن في دمشق. تسللت الأسرة المكونة من تسعة أفراد، من بناية إلى بناية والأب يحاول بكل ما أوتي من حواسَّ، استكشاف كل متر من الطريق، قبل أن يسبقهم ليكون أول العابرين، لعله يقيهم بنفسه أي خطر يتربص بهم. في نصف ساعة حاولوا قطع أكبر مسافة ممكنة، لكن خطورة الوضع كانت تفرض عليهم التأني، فلم يتقدموا كثيراً ليبلغوا مخرجاً من غابة الأبنية التي علاها الغبار، ومنظر الدمار من حولهم، يجعل الفجوات في الأبنية تبدو كأفواه مفتوحة لوحوش أسطورية، تريد هي بحد ذاتها أن تبتلعهم. كان «أبو بكر» كلما عبروا طريقاً، يحاول تقوية عزيمة أطفاله وزوجته، بتلاوة القرآن يذكّرهم، بآية الكرسي يرددها على مسامعهم وهو يلهث، ليجذب انتباههم إليه عن منظر الخراب والرعب المحيط بهم. ربع ساعة أخرى ساروها باتجاه المخرج من بؤرة الموت التي استحالت إليها هذه البلدة التي قضوا فيها سنوات جميلة سابقة. ولم يبق أمامهم سوى القليل ليبلغوا مأمناً يستطيعون أن يتابعوا السير منه من دون شعور بالخطر، هكذا تمتم «أبو بكر» وأطفاله يحيطون به في مدخل بناية قرر أن يستريحوا فيه لبرهة، فقد كانت أمامهم أرض خلاء واسعة، ستضطرهم للعدو لدقائق حتى يصبح بإمكانهم بلوغ الأبنية المقابلة. ثم أمرهم بالاستعداد طالباً منهم عدم التحرك حتى يتجاوز تلك الفسحة، ويتأكد من عدم وجود خطر محيط بهم، أخذ نفساً عميقاً وبدأ يعدو مبتعداً حتى أوشك الوصول إلى أقرب تلك الأبنية، وصوت طائرة مروحية يبدو أنه يقترب. انطلق يحمل الحقيبة والكيس الأسود على عاتقه، يعدو بحذر، لكن صوتَ فرقعة من إحدى البنايات القريبة، غطى على وقع خطوات «أبو بكر»، نعم غطى حتى على صوت المروحية البعيد. فرقعة تلتها أربع أخرى، ألقت الجسد النحيل وما كان يحمل، أمتاراً في الهواء، إصابة مباشرة من قناص أتقن القتل، في الأكتاف والرقبة. تحت عيني ذلك القناص، اندفع الأطفال السبعة وأمهم، يحاولون أخذ الأب الرحيم، بعيداً عن الرصاص الذي لم يتوقف، ناثراً الشظايا حولهم، وتصيب الصغير ذا السنين التسع، فيفقد عقله راكضاً باتجاه البيت الذي كان الجميع فيه بخير. مر يوم ويومان وسبعة، وطائر الهامة يحلق فوق الجسد المسجى على الأرض، يخبره بالحال، ويبحث عن ولي دمٍ يواريه الثرى، أو يجيب عن السؤال: من قتله؟ فهل من مستجيب أو مجيب؟!