تأتي رواية «كانت مطمئنة» للكاتب حسين القحطاني، محاولة أن تثبت طبقة معرفية ذاهبة للاندحار والتلاشي والذوبان، من خلال سرد موضوعي، يرتبط بالراوي العليم، الذي يحرك الشخصيات والتوجهات الفكرية، التي يحملها نص الرواية من خلال الاتكاء - بوصفها آلية أولى - على الثقافة الشعبية أو التراث الشفهي، الذي ينتقل من جيل إلى جيل. الرواية تشير إلى تلك الطبقة المعرفية بتراثها الشفهي، كأنه معلم من معالم الهوية، لا يجب أن يهمل. فالإشارة إلى الحكايات المرتبطة بجبل الدقم، أو قصة النباش، أو طريقة وأنواع الملبس والمأكل، إضافة إلى العادات والتقاليد، تأتي وكأنها خطاب مضاد للسائد والمهيمن. ربما كان الوقوف عند العنوان (كانت مطمئنة)، مدخلاً مهماً لمقاربة العمل، وتشكيل جزئياته وبنياته الفاعلة، فالعنوان يشير إلى ثبات النسق، والتراتب ونمط الحياة، الذي كان سائداً قبل ذلك، وأي دخول لعناصر فاعلة داخل سلسلة النسق والتراتب، ونمط الحياة، يحدث خلخلة في سلم القيم أولاً، وفي سلم التراتب الذي كان سائداً قبل ذلك. ولا يجب أن نتوقف «بالاطمئنان» عند حدود سيادة نسق، وتحلل وذوبان نسق آخر، فهو - في التحليل الأخير - يرتبط بالمقارنة بين حياة فطرية، وحياة حداثية مزدانة بالتغييرات الاجتماعية والاقتصادية، الحياة الفطرية، التي تتحلل في إطار نسق قديم، تظل أطلاله قابعة في نفوسنا، نحنّ إليه على رغم الغياب شبه الكامل. إن وجود النسقين على هذا النحو، نسق ميت له جذوته، ونسق مهيمن له الوجود الفاعل، كان له تأثير على بنية العمل، وتشكيل الشخصيات، فالرواية - على رغم من خطيتها المرتبطة بالسرد التراتبي التصاعدي من البداية إلى النهاية - قائمة على مراقبة نسق يتفكك ويتحلل، ومراقبة نسق يسيطر ويهيمن بالتدريج، من خلال التوازي البنائي بين شخصيتين: (يحيى البقال، الذي لا نسب له)، وشخصية الغريب (تميم)، وأي صعود وسيطرة لأي من الشخصيتين، يجاوبه اختفاء أو تحلل من الشخصية الأخرى، وغياب للفاعلية. فشخصية تميم حين كانت في بداية وجودها لبناء نسقها، كانت شخصية يحيى مهيمنة، وحينما بدأت شخصية الغريب تميم تأخذ مكانها، من خلال أفكاره المهيمنة، وأثرها على الرجال والنساء والشيخ، تحللت شخصية يحيى البقال، لأن مبررات وجوده قضت عليها أفكار الغريب. لقد ارتبط نسق الاطمئنان المتحلل آنياً بشخصية يحيى البقال، التي قدمت بشكل خاص، يجعلها علماً على ذلك النسق، فقد أصبح - على حد تعبير إحدى الشخصيات - كالشمس «نفتح أعيننا عليه، ونأوي إلى مخادعنا على وداعه»، وهو في منطق السارد العليم (الوحيد الذي يخاطب النساء، ويمازحهن، فرجال القرية موقنون ألا مضرة منه). فيحيى الأعور يعبر عن الحياة في بساطتها من دون تعقيدات، ولهذا يأتي صوته في نهاية الرواية كاشفاً عن انتهاء زمنه «تغيرت بكم الدنيا يا محمد، أصبحتم أكثر تضييقاً على أنفسكم، غابت عنكم سحب الحب التي كانت تلفكم، ماذا جرى؟». أما شخصية الغريب تميم، على الوجه المقابل، فهي تأتي مشتقة من النبوءة، التي تحملها في الرواية الجدة صالحة، فهي تمثل معرفة مبنية على تجارب ومنازلة للحياة والزمن، والنبوءة التي تحفظها عن آخرين سابقين، ترتبط بأغراب يسيطرون على عقول الأبناء، ويحدثون بهذه السيطرة بترا عن الإرث الماضي بعيداً عن حياة الدعة والهدوء، وتجعل صالحة تحقق هذه النبوءة مرتبطاً باختفاء شخص له سمات مشابهة لسمات وصفات يحيى البقال، وبجفاف بئر السيد، التي أصبح لها شكلان مختلفان باختلاف سيادة كل نسق. رسالة تنويرية في إطار هذه النبوءة تتجلى شخصية الغريب تميم، فهو رجل صالح، يحفظ القرآن، لا يميل للنساء، رسالته تنويرية من وجهة نظره، يأخذ عليهم الاختلاط، لم يكن أهل القرية يفهمون مقصده من الاختلاط، بل أحد الرجال تخيل أنه يتحدث عن اختلاط الماشية، مما جعله يدرك أنهم بحاجة إلى مجهود مضاعف، وإلى تغيير في آلياته، فانتقل إلى جيل الصغار، لأنهم سيشكلون امتداداً وصدى لأفكاره، ولأن الكبار تعودوا على طريقة إمامهم السابق صديق، وبالتدريج استطاع أن يكون جيلاً يصوب الأخطاء، التي عجز عن تغييرها مع الأهالي. إن هيمنة ذلك النسق تتجلى في التحول، الذي أصاب بئر السيد، بعد أن كانت مكان اللقاء والعواطف، كما أشارت الجدة صالحة للإشارة إلى طريقة معرفتها بالشيخ عيسى، ومكاناً للإنشاد الشعري، كما تجلى مع نخلة شقيقة جبران. فقد أصبحت في ظل النسق الجديد رمزاً للقسوة، ولم يعد يقصدها سوى الرعاة وعابرو السبيل، وعند سقوط جارية من جواري الشيخ جبران بها، حدث الاختلاف، حول من يمكن أن يكون محرماً لها، وظل الخلاف محتدماً حتى ماتت. والمحاولة الأخيرة التي قامت بها مهرة أخت الشيخ جبران الصغرى، لامتحان التحول والتبدل، التي ركبت بغلة أخيها، حتى تصل على البئر، التي خيم عليها الموت لم يكتب لها النجاح، لأن أخاها الشيخ جبران - لتكوينه البرغماتي - تدثر بالنسق الجديد، فقضى على تلك المحاولة. وجود هذا النسق بالشكل المهيمن، ما كان له أن يتم، من دون ظروف فاعلة، يتمثل أهمها في غياب شخصيات، كان يمكن أن تشكل النسق الأول وتقويه وتعضده، وتثبت وجوده بالنزاع، والمجاهدة لإبقائه فاعلاً، وليس بالتسليم، الشخصية الأولى هي الشيخ عيسى، الذي «اختفى ولم نجد له أثراً»، فالشيخ عيسى كان شيخ القرية قبل جبران، والرواية لم تفصح بشكل كامل عن توجهه، ولكن هناك إشارات يمكن أن تكشف عن هذا التوجه، مثل قول الرواية عن يحيى الأعور (أوصى به الشيخ جبران). الشخصية الأخرى، التي يمكن أن تبني نسق المحاربين، هي شخصية ناصر، الغائب الذي أخذ من أبيه الكثير، وصورته في عالم الرواية شبيهة إلى حد بعيد بالحلم أو المخلص أو المنقذ، والرواية لم تشر بشكل مباشر إلى أي نسق يمكن أن نضعه، ولكن معاينة التسلسل أو الصفات المسدلة على بعض الشخصيات بداية من عيسى الأب، ومروراً بالابن ناصر، وانتهاءً بالحفيد محمد، تشير إلى أن هناك تشابهاً في ملامحهم ونزوعهم، فكل هذه الجزئيات تضع (ناصر) في إطار الغائب المنتظر، وتحرك دلالة مريم الزوجة، لتأخذ أبعاداً رمزية، تند عن أي تصور واقعي، وتجعل منه علامة قوة، كان يمكن أن تغير وتثبت النسق الذاهب للاندحار والتلاشي. نسق المقاومة إن غياب نسق المقاومة في النسق المتحلل المرتبط بغياب شخصيات كان يمكن أن تكون فاعلة في حال وجودها، لا يمكن أن يكون كاملاً لو لم يكن هناك تجاوب من الشخصيات الأخرى الموجودة، فالإلماح في ثنايا الرواية إلى أن أحمد كرش (شقيق ناصر الغائب)، شخصية تنم عن الضعف، من خلال الإشارة إلى أنه لم يرث شيئاً عن أبيه عيسى، وجزئية غياب النسب الفاعل في إطار شخصية يحيى الأعور، إضافة إلى تحالف الشيخ جبران مع النسق الجديد، كلها جزئيات ترسم نمط التسليم بدلاً من النزاع والقتال في سبيل إبقاء نسقهم حياً. وقارئ الرواية يدرك أن غياب الشيخ عيسى، وغياب ابنه، ربما يكون مقصوداً للإيحاء بأن سيطرة النسق المهيمن، تمت من دون نزال، أو من دون قتال، فالرواية - في الأساس - تعبر عن هؤلاء المهزومين، الذين وجدوا أنفسهم في مقابل صراع لا قبل لهم بمنازلته، أو محاربته، مثل الشيخ صديق، أو أحمد كرش، أو قاسم صدقة، فكلها شخصيات مستسلمة، قد تظهر همهمة وضيقاً وتبرماً، ولكن ليس لديها الشجاعة للقتال أو النزول إلى حلبة الصراع. إن الرواية في ذلك الإطار تعطي صوتاً للمهزومين، الذين لم يحاربوا، وتعطي صوتاً للمقهورين الذين لم يعط لهم قبل ذلك مساحة للتعبير أو لتمثيل أنفسهم، كما تجلى بشكل لافت في شخصيتي (نخلة) و(مهرة)، فالرواية تلح على ظلم الشيخ جبران لهما، فهما أقل قيمة من الجواري عند مالكيهم. فصوت مهرة، التي ربطت بجوار بغلة أخيها، يظل فاعلاً «يا إلهي كيف أقضي حاجتي، فأنا غير قادرة على حبس بولي»، أو قولها بعد أن فك قيدها «وهل الحياة في البيت أفضل من هذا المدرس، كلاهما تفوح منه رائحة العذاب والقهر»، وكاشفاً عن اندحار خاص تحت سلطة وهيمنة الأخ الشيخ جبران، الذي يعطيه النسق القديم سلطة فاعلة في ذلك الإطار، ويعطيه النسق الجديد من خلال غض الطرف عن تلك الممارسات بوصفه ولي أمرهنّ قدرة مهيمنة. أي قارئ سيلمح تشابهاً بين هذه الرواية، ورواية ساق الغراب ليحيى أمقاسم، في مجموعة من الأفكار والشخصيات، ولكن بعد قراءة العملين، يمكن القول إن حسين القحطاني يقدم في هذه الرواية نسقاً تعبيرياً، يكشف عن موهبة تتكشف، وتتفتح، إضافة إلى أن هناك تباينات بين العملين، فرواية ساق الغراب تكتب تاريخ المهزومين المحاربين، ولكن هذه الرواية تكتب تاريخ المهزومين غير المحاربين، الذين سلموا أنفسهم طواعية من دون نزال، وإن ألمحت الرواية إلى وجود همهمة جزئية أو عدم الرضا. وهناك فارق آخر يتمثل في كون يحيى أمقاسم أقام روايته من خلال البحث المضني في التاريخ، وتقديم طبقة معرفية، ونمط حياة كان سائداً، أما هذه الرواية «كانت مطمئنة» فمنطلقها تعبيري في الأساس، يرتبط بحنين جارف للفطرية الموغلة في التسرب والانفلات، ولهذا فقد حاولت أن تعطي بعض الشخصيات القدرة على تمثيل ذواتها، في مقابل كون مطبق ومهيمن، مثل يحيى البقال، ومهرة، ونخلة. تبقى جزئية أخيرة تتمثل في الخلط بين السرد والحكي، فالحكي يمكنني من الاستماع أو القراءة عن سنوات طويلة من حياة الشخصيات في جمل بسيطة، ولكن السرد القائم على التحبيك، يهتم بالطريقة التي يمكن أن تقدم بها الحكاية إلى المتلقي، ولهذا أظن أن الرواية يمكن أن تنتهي عند نهاية الفصل ال22، «كانت تلك آخر جملة نطق بها تميم، في خطبته الأخيرة»، أما الفصل ال23 فلا قيمة له في إطار هذا الفهم، من ترك النهاية مفتوحة، ويحتاج إلى إعادة نظر لتحبيك وكتابة جزء ثانٍ وثالث من هذه الرواية. * ناقد وأكاديمي مصري.