تجيء الرواية الأولى للكاتب إبراهيم مضواح الألمعي «جبل حالية»، التي فازت بجائزة الشارقة عام 2008، لتثبت أنه كاتب مُولع بالمراقبة والتحليل والمقارنة، وكلها جزئيات وثيقة الصلة بالتأمل المرتبط بعين الروائي الراصدة للماضي والآني والمستقبل. تتعدد المداخل إلى رواية جبل حالية، فهي رواية مهمومة بإشكالات كثيرة، وربما كانت إشكالية الموت من المداخل المهمة لقراءة هذا العمل، فهو الكيان الذي يمر بالكائنات الحية جميعاً، ولا يتجلى هذا المدخل بعيداً عن المداخل الأخرى فهي متشابكة، وميزة العمل الجيد أن تتشابك وتتعدد مداخله، فيكون الوقوف عند مدخل واحد كفيلاً بتناول جزئيات عدة. فالموت يلح في الرواية بوصفه حقيقة ملموسة، وإذا كان العنوان «جبل حالية» يجعل الرواية وثيقة الصلة بالمكان، الذي يحدد هوية ونزوع وآمال وإحباط أهل السورجة، فإن كون هذا الجبل يحتوي على المقبرة، يجعل الرواية – أيضاً – وثيقة الصلة بالموت، وبالأسئلة الوجودية التي تلازمنا على الدوام. والموت في الرواية يطل كأنه مصير طبيعي للشخصيات التي تتيبس على عودها، مثل (حالية - فضة - والمطوع الكبير)، ويطل كأنه مصير مأسوي للشخصيات التي ماتت في اخضرارها ونضارتها، لأن هناك جريمة تبرق خطوطها وتظهر، ولكن الكل يتهادن للسكوت عنها، مثل شقيق الجدتين فضة وحالية، وحسن الذيب وآسية. والرواية في كشفها لهذا المصير المأسوي، أوضحت أنه مصير يكتنف النساء والرجال معاً، ولكنها أشارت بشيء من الإصرار إلى وجوده بقوة في إطار النساء بداية من حالية التي سُمي الجبل باسمها، ومروراً بتركية الأهدل، وانتهاء بآسية حبيبة عمر، ويجمعهن في ذلك الإطار، أن الحب كان السبب الرئيسي لمصيرهن المأسوي. إن المدخل السابق الخاص بسؤال الموت وجلاله وأثره المأسوي لا يمنعنا من الإشارة إلى أن الرواية تركز اهتمامها الأساسي على رصد التحول على مستويات عدة، منها ما يرتبط بالمتغيرات الاجتماعية الخاصة بالملبس والمأكل، وصولاً إلى جزئيات لا يمكن فصلها عن التغييرات المرتبطة بالتشدد والتساهل في ما يتعلق بأمور الدين، والإشارة إلى النماذج الفكرية، التي تكونت بفعل هذا التباين. بناء رواية «جبل حالية» يبدأ من المقبرة بعد الدفن الخاص بالشخصية الرئيسة (عمر السورجي)، وتقوم الرواية على فكرة الارتداد لمعاينة أزمنة غابرة، وتحولات سياسية واجتماعية حدثت في المدى الزمني للرواية من 1956 إلى 2006. في تلك الفترة تظهر الرواية التحولات الاجتماعية التي أصابت الفرد، وأصابت المجتمع وبنياته، والتحولات السياسية التي جاءت في الرواية – على رغم الإلحاح عليها زمنياً - وسيلة إطارية خارجية، فَهَمُّ الرواية الأساسي يرتبط بمعاينة التحولات الاجتماعية، ونشأة المد الديني هادئاً وادعاً، ثم مسيطراً مهيمناً. استمرت الرواية من خلال فصولها المتوالية في الإشارة إلى عالم الموت، ثم بدأت تلك الآلية تتحلل تدريجياً بفعل الانهماك في تلقي العمل، بوصفه بناءً خاصاً لا يتدابر مع آلية الارتداد الأولى، وإنما يحاول أن يؤسس هويته البنائية الخاصة. الرواية تلحُّ على المقارنة بين عالمين: عالم السورجة القديم، والعالم الآني، فتقف عند نظام الملبس القديم، ونظام الأكل، والقيم السائدة بين أهلها في ذلك العالم الصغير، إضافة إلى معتقداتهم الخاصة والأساطير، مثل حكاية مقتل شقيق الجدتين (حالية وفضة) الذي قتلته الجن. وتتخذ الرواية من هذه المقارنة الأولية، وسيلة لنقد مجتمع السورجة من مجتمع منتج إلى مجتمع استهلاكي. ولكن كل تلك الجزئيات ربما كانت نواة صغرى للإشارة إلى التحول الأكبر، الذي يخص التدين الفطري القديم، القائم على البساطة والرعاية والحنو، ويمثله المطوع الأكبر، اذ تحولت تلك الصورة إلى صورة مغايرة قائمة على التشدد، يمثلها نافع المطوع الأصغر، فقد كوِّن تكويناً خاصاً، جعله لا يرضى عن نسق أبيه في التعامل مع أهل السورجة. ويظهر لقارئ الرواية أن وجهة نظر الراوي أقرب إلى الصورة الأولى، من خلال الإشارة إلى أن المطوع الكبير كسب احترام الجميع، ومن خلال الرواية يتجلى الكشف عن موقف الراوي من المطوع الصغير، من خلال الإلماح إلى بعض الجزئيات، مثل رفض نافع أن تسلم زوجة أبيه على عمر، لأنه ليس من المحارم، أو دعوته لمنع الغناء في حفلات الزفاف، والاستعاضة عنها بشيخ يعظ الناس، أو إحضار غطاء للوجه والرأس لكل نساء السورجة، ذلك الغطاء الذي لم يكن مستخدماً إلا في المدينة قبل مجيء نافع وعودته إلى السورجة، أو رفضه لدخول التلفزيون (أبو الخبائث)، أو رفضه لتصوير يوم التخرج، أو جداله مع أستاذه المصري الأزهري، لتساهله في سماع الأغاني التي يعتبرها غزواً فكرياً. كل هذه الجزئيات تشير إلى انحياز الراوي إلى الصورة الأولى، ولكنه في جزئيات أخرى يفصح عن هذا التوجه، بعد موت المطوع الأب في قوله: «رحل النموذج الصحيح للتدين، وحل محله النموذج المغلوط». إن المساحة الخاصة بنافع في الرواية مساحة كبيرة جداً، وكأن توجهه يشكل بؤرة دلالية، حاولت الرواية تسليط الضوء عليها. ربما زاد من مساحة وجود نافع في الرواية، أنها - أي الرواية - لا تكتفي فقط بحدود المقارنة بين صورة قديمة وأخرى آنية، وإنما تهتم بتشكيل نماذج فكرية موجودة، ولها حضور لافت في مجتمع السورجة، بوصفها نموذجاً للمجتمع بشكل عام. في تشكيل الرواية لهذه النماذج، نجد أن هناك النموذج الخاص بنافع، فهو شخص جاد لا يظهر اللين والضعف للعصاة، لم يكن يرضى عن تساهل والده في كثير من المسائل الدينية، وربما تكون شخصية نافع هي الشخصية الوحيدة، التي نجت من المصير المأسوي، الذي أصاب جميع شخصيات الرواية، ربما كان مصيره المأسوي ماثلاً في تناقضه بين البداية والنهاية، فأفكاره التي استجاب لها أهل السورجة سريعاً تحول عنها في نهاية حياته. أما النموذج الثاني المقابل لشخصية نافع، فهو جمال الليبرالي، إذ قدمت شخصيته بشكل يكشف عن هويته، من خلال القراءة في كتب المستشرقين والفلاسفة، كان مهموماً بطرح الآراء المخالفة، وكان يزيد هذه الآراء حدة أنها تطرح في مناخ ثقافي يلفظها من الأساس، مثل الحديث مع نافع عن الفتوحات الإسلامية وتشابهها مع ما يحدث اليوم. بين النموذجين السابقين، يجيء نموذجان آخران، نموذج سعيد – الذي لم تلح الرواية على تشكيله بشكل كاف مقارنة بصورة نافع أولاً، وصورة جمال ثانياً - ونموذج عمر بطل الرواية الأساسي. فسعيد نموذج للشخصية الهادئة الوادعة، التي يرضى عنها الجميع، وكأنه نموذج يمثل عامة الشعب، ونموذج عمر الذي كوّن تكويناً ثقافياً خاصاً كانت قراءاته للتراث موازية لمتابعة اتجاه جمال، ولم يكن يطرح الآراء التصادمية. وقد يبدو للبعض أن عمر يمثل النموذج المتوسط بين نافع في تشدده وجمال في تحلله، ولكن القارئ للرواية يدرك - من خلال معاينة وجهات النظر التي لا يعلن عنها بصراحة - أنه ربما يؤمن بآراء جمال، ولكن وضعه الزمني في بداية الإحساس بالتحول، جعله ييأس من نجاحه، خصوصاً بعد معاينته تأثير آراء نافع في أهل السورجة، وقد ألحت الرواية على تشكيل رمز له حضوره المكثف، وهو رمز وثيق الصلة بشخصية عمر هو رمز الوسادة الرمادية، تلك الوسادة التي يحن إليها كثيراً في توحده بجبل حالية، ودلالة الرمز حين تنطلق من خصوصية دلالة اللون، ترتبط بخصوصية البطل وطبيعته غير القادرة على الفعل، وتجذره في مسافة الثبات غير قادر على تغيير الواقع الذي يفرق منه، فهو لا يملك قوة جمال في الجهر بالخروج عن النسق المؤسس، ولا يملك إيمان نافع وتماسكه في المواقف الصعبة، ولا هدوء سعيد واستنامته إلى الأنساق البالية، فهو مشدود ومتجذر في نسق قديم، ويرقب قيمه وآماله في أسى شفيف، فهو يعيش في سياق لا يملك له دفعاً إلا بالتسليم. إن مقاربة هذه التحولات من خلال الرواية بنماذجها، التي تحمل رموزاً لتكوينات اجتماعية خاصة لم تخل من الإشارة إلى جزئيات تشكل في النهاية منحى نقدياً خافتاً، كالإشارة إلى الفارق بين الظاهر والباطن في أجزاء من نص الرواية، مثل موظف المكافأة الشهرية المشغول بعد صلاة المغرب والعشاء بدروس الدين، فقد كان يختلس أموال الطلبة، وسالم المهدي الذي أبرقت الرواية عن مشاركته في قتل حسن الذيب، واستعانته بالمشعوذ مشعان للزواج من آسية، لا يتورع - انطلاقاً من مصلحته الخاصة - عن الحديث عن الدين مظهراً تشدداً مغالياً في بعض المواقف، ويحرم الغناء في الأفراح. «جبل حالية» هي رواية المصير المأسوي والتحولات الكبرى التي أصابت القرية الصغيرة، تلك القرية التي كانت محتمية بنفسها وقانونها الداخلي عن دنس المدينة وفسادها، ولا يقلل من قيمة هذا العمل وشموخه إلا المنحى الأخلاقي، الذي يظهر بشكل لافت للنظر في بعض الأجزاء، إضافة إلى نقص في التكوين الفكري لبعض النماذج، وعرض التحولات بشكل سريع، اذ كانت تحتاج إلى تأن في رصدها وتقديمها للمتلقي.