يحتوي كتاب "في السرد الروائي"، الصادر حديثاً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" للناقد الدكتور عادل ضرغام، على دراسات ثلاث، يتوقف خلالها المؤلف عند تلك الخصوصية المرتبطة بالفن الروائي، بوصفه جنسا أدبيا له حضوره المتميز، من خلال بعض الدراسات التي تحاول الإفادة من تلك الخصوصية، المرتبطة بتقديم أنساق جاهزة للقارئ فيتحاور معها معارضا أو موافقا انطلاقا من توجهه الفكري والأيديولوجي. وربما كان لفكرة الأيديولوجيا أثر كبير في ذلك الكتاب، فالدراسة الأولى (التوجيه السردي في رواية "الحب في المنفى" لبهاء طاهر)، والدراسة الثانية (تشكيل الأيديولوجيا في رواية "النيل الطعم والرائحة" للكاتب إسماعيل فهد إسماعيل) تصبان في إطار توجه شديد الخصوصية بحيث يرتبطان برصد بطلين مأزومين متساوقين بنسق قديم، ويؤمنان بشرعية وجود ذلك النسق، في ظل وجود وسيادة نسق مباين. وتأتي الدراسة الأولى منطلقة من فعل التوجيه، بوصفه آلية فاعلة تتيح للكاتب - وهو يقف على حافتي الواقع الفعلي والواقع الفني - أن يؤسس بناءً روائياً متساوقاً مع رؤيته الفكرية وتوجهه الأيديولوجي. وفي هذا السياق يقول المؤلف: "هذا التوجه في مقاربة الرواية يلقي بظلاله على الطريقة التي يمكن أن نقارب بها القيم الأيديولوجية في رواية ما. هل ترتبط هذه المقاربة بمعاينة واقع فعلي، ثم البحث عن هذا الواقع في النص الروائي، وكأن هذا النص يقدم الواقع الفعلي، بوصفه آلة منتجة ساكنة لا تغير في طبيعة هذا الواقع؟، أم إن هذا التناول يجب أن يرتبط بمعاينة ومقاربة آلية فنية فاعلة، يكون لها الوجود وفعل السيطرة والتشكيل لبنى فكرية، ويكون ذلك هو الأساس، لأنه قبل إنجاز العمل الأدبي- والعمل الروائي على نحو خاص – لا يمكن الحديث عن أيديولوجيا، فالعمل الروائي لا ينتج أيديولوجيا، هو – فقط - يسهم في صيرورتها نحو الذيوع والانتشار أو نحو التهميش والانطفاء. والآلية الفاعلة في رواية بهاء طاهر، والتي تشكل نمط ومعمارية البناء، تتمثل في انبناء السرد في إطار تصاعدي مع وجود ذاكرة منفتحة، وهذا البناء وثيق الصلة بمعاينة التحولات بين ماض سابق وحاضر آني له فعل السيطرة والهيمنة، ويتجلى ذلك في تشكيل الشخصيات وتحولها من نسق إلى نسق آخر". أما الدراسة التالية فهي ترتبط بالتوجه السابق، حيث تم التوقف عند آلية تيار الوعي، بوصفها الآلية الفاعلة المتحكمة في تشكيل العمل، وقد كان لها تأثير على الشخصية المقدمة، التي قدمت بشكل مفتت يحتاج إلى من يجمعها، لكي تتكون له في النهاية صورة شبه كاملة عن البطل أو عن الشخصية الرئيسة. وقد أثرت هذه الآلية – كما يقول المؤلف - على طبيعة الراوي في الرواية، فالراوي في رواية تيار الوعي له – إن وجد – وجود خاص، وذلك لأن منطق سيطرته على منطق البناء ووجهة النظر- في إطار رواية تيار الوعي- يكاد يكون محدودا. ولكن رواية النيل الطعم والرائحة لا تُبنى فقط على نسق أو آلية تيار الوعي، فتيار الوعي يطل آلية فاعلة في إطار وجود سرد تراتبي تصاعدي، ولهذا فوجود الراوي في إطار السرد التتابعي له نوع من المشروعية، وإن كان لا ينفرد وحده بوجهة النظر أو بزمام البناء، وإنما يوجد ما يمكن أن نسميه الصوت المشترك أو المتوحد بين الراوي والشخصية. وقد مكنت آلية تيار الوعي القارئ من معاينة نسقين، نسق قديم متوار، ونسق جديد. والشخصية الرئيسة – وإن لم تعلن انتماءها إلى النسق القديم- إلا أنها تتساوق معه، وتحاول من خلال فعل خاص تهشيم النسق السائد الآني، وتثبيت النسق القديم. أما الدراسة الأخيرة فهي تحاول تقديم تجليات نظرية وفكرية لجنس السيرة الذاتية، ويرى المؤلف هنا أن التصور - أو التجلي الأول - التاريخي، يحكم على السيرة الذاتية – انطلاقا من مؤسسات ومقدسات تتصل بحدود الأنواع الأدبية الكلاسيكية- بأنها جنس هجين غير مستقر ومنفتح على أجناس أخرى. أما التصور البنيوي فهو يهتم – انطلاقا من توجهه الخاص الذي يهتم بالبنية ولا يهمل الجنس التاريخي – بالتشكيل المنجز في لحظة ما، ومن ثم نجد أصحابه ينطلقون من جزئية تحليل البنية، للوصول للعنصر الفاعل، وقد كان هذا التوجه فاعلا في مقاربة السيرة الذاتية، لأنه يبحث عن عنصر مهيمن، ليس له صفة الثبات الموجودة في الآليات أو الأسس الموجودة، التي حددها التصور الكلاسيكي لنظرية الأجناس الأدبية. أما التوجه الأخير المرتبط بجنس السيرة الذاتية فهو التوجه المرتبط بنظريات ما بعد الحداثة، وهذه النظريات حاولت – برأي المؤلف - أن تنزل نظرية الأجناس الأدبية من كيانها الفوقي المتعالي، خاصة وهذه النظريات تنطلق من نفي فكرة الأصل الثابت، ونفي الجنس المنجز.