ثمة ما يشبه الكرنفال العربي احتفاء بتركيا، لأسباب تبدو بديهية. وتبلغ الحماسة مبلغاً يتجاوز إغداق الثناء على اسطنبول، وأردوغان، بما يفوق القصائد الجامحة في المديح والحماسة. بل ان عربياً متقد العاطفة اقترح في استطلاع رأي لمحطة الاذاعة البريطانية ان تتولى تركيا قيادة العالم العربي. لعل هذه الرغبة وحدها تنطق بما يعادل مجلدات، فهي تشي باحساس ممضّ بخواء عربي، وباللاجدوى في كل ما هو قائم. فما من حقبة يبدو فيها هذا العالم الصغير هامشياً في كل تجليات وجوده، في الاقتصاد، كما السياسة، وفي الاجتماع، كما الثقافة، وفي شؤون السلم، كما في امور الحرب. سياسياً يبدو العالم العربي آخر المزدرين بدولة القانون فكرة وتطبيقاً، وأول الفاشلين في الحرب (ما زال نصف الاراضي العربية محتلاً منذ 1967). اقتصادياً ثمة تراجع عام كان سيغدو اسوأ لولا فضلة من اسعار النفط. ثقافياً، التراجع اسوأ، بحسب معايير الاممالمتحدة. فضلاً عن ذلك لا تلوح في الافق زعامات سياسية او قيادات فكرية تثير الاهتمام. اليسار الاجتماعي يعيش على ماض تليد، واليسار العروبي لا يملك ما يفخر به، والبديل الاسلامي يحقق الفشل حيثما يمسك بالسلطة، او يعد بالمجد المؤزر حيثما يقف في المعارضة. الاسلاميون في السودان انتهوا عبيداً للعسكر، وفي فلسطين قسموا شبه الدولة، واحتفوا بالكانتون، وفي العراق ساروا على درب التقتيل أو على درب العجز عن أبسط متطلبات ادارة الدولة. وما من بلد عربي بقادر على ان يتولى دور دولة محورية للملمة الشعت العربي بإزاء العالم. في هذا الخواء برزت إيران ولحقتها تركيا. ايران الجامحة، بنظامها الاكليروسي بالكاد تشكل انموذجاً مغرياً، عدا حفنة من الموالين. وتركيا ما كانت لتبدو مغرية لولا الانقلاب في السياسة الخارجية التركية، إزاء الغرب وإزاء اسرائيل. ليس ثمة وسط العرب تأمل في حقيقة ان النموذج التركي، إن كان بالوسع استخدام مقولة «نموذج»، داخلي أولاً قبل ان يكون خارجياً ثانياً. فلأول مرة ينجح مجتمع علماني حديث في ان يقصي العسكر عن السلطة، بعد ان ابتلي به منذ تأسيس الدولة عقب الحرب العالمية الاولى، حيث كانت الحكومات المدنية مجرد فاصلة صغيرة بين انقلابين. وحذت دول عربية حداثية، منذ الخمسينات (بل منذ الثلاثينات إذا أدرجنا انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936) حذو أسوأ ما في تركيا: سيطرة العسكر، في الجزائر، كما في مصر والسودان، وفي سورية كما في العراق. اما اليوم فتركيا تقصي العسكر باسم الديمقراطية البرلمانية وفي ظلها. ولتركيا الحالية مظهر داخلي آخر. أول بلد اسلامي يحلّ اقتصاده في المرتبة 16 عالمياً، على رغم انه يفتقر الى المال السهل: ريوع النفط. وهو يتوافر على طبقة رجال اعمال راسخة، متراكمة، مكينة، وفاعلة، اسهمت، كقوة اجتماعية، في لجم الخوذة العسكرية، وكبح جماح مناوراتها وجشعها السلطوي الجاري باسم «الخط القومي»، و «الدفاع عن الامة»، وهي ورقة التوت التي يستر بها كل الجنرالات عورة النهم للسلطة. ولتركيا حركات اجتماعية قاعدية استطاعت، بفضل التفاعل الواقعي، ان تنمّي إسلاماً معتدلاً، خلواً من المظاهر الطائفية، والشعبوية، والتسلطية. وعلى قاعدة الانعتاق من العسكر، والمتانة الاقتصادية، والتفويض الشعبي الفعلي، أمكن تركيا ان تخوض مياه الاستقلالية المدارة، بإزاء راعيتها القديمة، الولاياتالمتحدة، وبإزاء حليفها القديم اسرائيل. شغف العربي بالسياسة الخارجية التركية، خصوصاً بعد فاجعة «اسطول الحرية»، اعتراف بفراغ الزعامة العربي، مثلما هو تعبير عن خواء التفكير (ولا اقول الفكر) السياسي العربي الذي لا يزال يفرغ كل شحناته العاطفية، ونشاطه العملي، في قضايا السياسة الخارجية. وإن عنّ له التفكير في امور المجتمع والاقتصاد والثقافة، كشر عن انيابه ضد «هتك الاعراض» في «ألف ليلة وليلة»، أو أنشب مخالبه في شعور النساء غير المحجبات. يلاحظ دارسو تاريخ مجتمعات البلدان العربية ان شحنات النشاط السياسي تتركز عموماً في قضايا السياسة الخارجية (93 في المئة منه)، غير ملتفة الى موجبات الدولة والاقتصاد والمجتمع. ينطبق هذا عموماً، على مجمل العالم العربي منذ الخمسينات حتى اليوم. ولعل الاستثناء الاكبر ما اصطلح عليه ب «ثورات الخبز» التي انطلقت في مصر عام 1977، وتوالت في الجزائر والمغرب والاردن، خلال الثمانينات، ثم انطفأت. ويسود الآن ما يشبه صمت القبور. ولم تكن ثمة مفاجأة كبرى في مسح للرأي العام أجراه أحد المعاهد التركية البارزة في سبعة بلدان عربية هي: مصر، العراق، الاردن، لبنان، فلسطين، العربية السعودية وسورية. فالاستطلاع مثلاً يعطي تركيا أهمية أولى (87 في المئة)، فيما 48 في المئة يرون ان إسرائيل وأميركا (18 في المئة) وايران (9 في المئة) الخطر الاكبر، وأن المدافع الأكبر عن القضايا العربية هم الناس (30 في المئة) وان المدافع الاصغر هو الحكومات العربية (3 في المئة)، وان 65 في المئة يرون ان تركيا افضل معبر عن مصالح العرب والمسلمين، وأكثر من 80 في المئة يفضلون ان تلعب تركيا دور الوسيط لحل النزاع العربي - الاسرائيلي، وأكثر من 80 في المئة يرغبون في ان تلعب دوراً اكبر في العالم العربي، وأكثر من 70 في المئة يعتقدون انها خير نموذج للبلدان العربية، وبنسبة مماثلة يعتقدون انها تركيا نجحت في الجمع بين الاسلام والديموقراطية، كما ان ما يقارب ال85 في المئة يعترفون بأن نفوذها في العالم العربي تنامى مؤخراً. بعد الفراغ من هذا المسح، طرح المعهد التركي اسئلة تتعلق بأكثر القضايا الحاحاً مما يواجه «بلدك»، فكانت الاجابات: 49 في المئة المشكلات الاقتصادية، 5 الخدمات، و3 التعليم، و3 القضية الفلسطينية، و7 لا مشاكل، و11 بلا اجابة. ولعل هذا الحقل من الاستطلاع يشي ببداية تحول. فاعطاء ما يقارب 50 في المئة للمشكلات الاقتصادية الداخلية و6 للخدمات والتعليم، مقابل 3 فقط للقضية الفلسطينية، كان، بحسب قول اصحاب الاستطلاع، بمثابة مفاجأة. والاستثناء الوحيد في فلسطين (38). وأعيد طرح السؤال ثانية، ولكن بدلاً من «أكثر القضايا إلحاحاً في بلدك»، صيغ السؤال ب «اكثر القضايا إلحاحاً في العالم العربي». هنا جاء الرد متماثلاً، فاحتلت القضايا الاقتصادية المرتبة الاولى عربياً (26)، والقضية الفلسطينية المرتبة الثانية (18)، لكن الفارق عن الاستطلاع الاول كان واضحاً. اهتمام اقل بالاقتصاد، واكبر بفلسطين، على رغم بقاء الاولوية للاقتصاد والخدمات. يريد العرب العاربة تعريب تركيا، تنفيساً عن لوعة العجز. والأحرى بهم ان يسعوا الى تتريك العرب، بمعنى التحول في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة.