كلما أمعنت النظر بعالم السياسة عند العرب وجيرانهم الكبار، تذكرت رواية ستاندال «الاحمر والاسود» وبطله جوليان سوريل، القادم من الاقاليم، والحالم بالصعود الاجتماعي، إما بالانتماء الى سلك الاكليروس (الاسود)، او الانخراط ضابطاً في الجيش (الاحمر). فمسوح القساوسة وسيوف العسكر هي الرمز الأرأس للسلطة والهيمنة في عهد ما بعد نابوليون في فرنسا. وسبب التذكر بسيط. فالسياسة في العالم العربي إما تحت جزمة العسكر (بلباس مدني او من دونه كما هي حال مبارك، والقذافي)، او تحت عمامة الملالي مباشرة، كما في ايران، او مواربة كما في غيرها. انها سلطة الدين او سلطة الخوذة، والمزيج وارد ايضا (السودان). وللعسكر دور كبير ان لم يكن حاسماً في بناء الأمم، وانتهاكها على حد سواء. انظروا الى التغييرات الأخيرة. الجيش في تونس، المحيّد من السياسيين (بورقيبة)، يتدخل بضغط ناعم ليحمل الرئيس على الفرار، ويحمي الانتقال الى سلطة مدنية. في مصر، الرئيس العسكري يخضع لضغط مقارب، ولكن بمآل مختلف، ينتهي بتحويل المجلس العسكري الى «رئيس جماعي»، مواصلاً بذلك وصاية المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية. وفي ليبيا، كما في سورية واليمن، يلعب الجيش دور حامي النظام، ودور قاتله. وانشقاق هذه المؤسسة هو على أشده في ليبيا، وعلى أخفه في سورية، وبين بين في اليمن. وفي كل هذه الامثلة تحولت الجيوش الى مزرعة عائلية، فالابناء والاشقاء وابناء العمومة، والاصهار يمسكون بالمواقع الحساسة في هذه الهيئة. لا غرابة في أن نشهد قيام هذه الجيوش بتحرير الاوطان من سلطة المواطن، بعزيمة لا تلين، وترك الاراضي المحتلة تحت الاحتلال. فالمعركة ضد الجماهير أهم من سواها. احياناً اتخيل حال العراق لو لم يحصل الاحتلال، واندرج في موجة التغيير العاتية. كان الجيش العراقي مشطوراً نصفين، نصفا للأمة، ونصفا للدولة: اعني فيالق الحرس الجمهوري، المترعة بالاقرباء والاصهار، وبالكراهية لكل ما عداهم، والمتنعمة بخيرات الامة: النفط وسواه. تاريخ الجيوش الدائمة في رقعتنا الحضارية (العالم العربي وتركيا وايران) اشكالي، وغرائبي. قبل قرن ونصف قرن تقريباً لم يكن ثمة جيش دائم، باستثناء مصر محمد علي، وكان هو نفسه محاربا تحول الى ملك. ففي الدولة العثمانية كان نظام الانكشارية والسباهي (الفرسان)، يمنى بالهزيمة تلو الاخرى امام اوروبا الصناعية الصاعدة. اول مرسوم لإنشاء جيش دائم، لإنقاذ الدولة، انتهى بكارثة. فتنظيم الجيش تطلب استدعاء خبراء من فرنسا، فأمر هؤلاء باستبدال الانكشارية بنظام الجنود المحترفين، واستبدال الشروال التقليدي بالبنطلون الاوروبي. فقد الانكشارية (المحاربون من الطرق الصوفية) حظوتهم، شأن خياطي الشراويل التقليدية الذين فقدوا مهنتهم. توجه الطرفان الى المفتي، فاصدر فتوى بهدر دم السلطان العثماني، الذي قتل شر قتلة. وتأخر انشاء اول جيش دائم قرابة ثلاثة عقود او اكثر، مثلما تأخر تأسيس اول وزارة (الحربية، والحقانية =العدل)، وتأخر تأسيس اول برلمان. ولا تقولوا لي بعد هذا ان البنطلون مجرد لباس، لا دور له في الدين والسياسة والصلاح والفلاح. دور الجيوش في تأسيس الأمم الحديثة (بالأحرى الدولة المركزية الحديثة) اساسي وجوهري. اتاتورك، الجنرال المخضرم، حرر تركيا من الاحتلال ابان الحرب العالمية الاولى، وبات «ابو الاتراك»، اما مؤسسته (الجيش) فقد توطدت كمؤسس للأمة التركية الحديثة، فطالب، شان اقطاعي الأمس، بحق البكورية لأمة بأسرها. ولم يخرج من الحلبة الا بعد قرابة قرن، ولا يزال يحلم بالعودة من الثكن. وكذا حال الجيش المصري في عهد الجمهورية. فهو مؤسسها. وكمؤسس يطالب ويمارس الوصاية الكاملة، والعراق ليس احسن حالاً. فالعسكر العراقي الذي خدم في الجيش العثماني أمسك بتلابيب الدولة، من رئاسة الوزراء، الى وزارات الدفاع. وبانقلاب بعد آخر (منذ انقلاب بكر صدقي عام 1936- حتى آخر انقلاب بعثي في 1968- وسلسلة الانقلابات الفاشلة بعده) دخل الجيش قصور السلطة ليبقى. وصعود صدام المدني لم يكن بلا دعم عسكري. استخدم اقرباءه العسكر ليصعد في الحزب، واستخدم الحزب للهيمنة على المؤسسة العسكرية، والقبيلة للهيمنة على الاثنين. ولم ينج قط من خيلاء النياشين، فمنحه أحمد حسن البكر رتبة لواء في الجيش (وهو الذي لم يكمل دراسته الجامعية)، ثم أضاف هو نفسه لنفسه رتبة اعلى، وارتدى البزة العسكرية طوال الحرب العراقية-الايرانية. وفي ايران، أدت أزمة النظام الملكي القاجاري الى دخول الجيش الحلبة، واستيلائه على السلطة. لكن الجنرال رضا بهلوي لم يكن مدنياً يحلم بالنياشين، بل عسكريا ً يبجل التيجان، فوضع التاج على رأسه، ومن بعده ابنه محمد رضا بهلوي، الملك الثاني والاخير في اسرة الغاصبين. يقال ان كل العسكر في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي كانوا يعلقون صور اتاتورك بوصفه المثل الاعلى، الجنرال المتحول الى سلطان مطلق، تماماً مثلما كان بطل ستاندال، يحتفظ بصورة الجنرال- الامبراطور نابوليون بونابرت تحت وسادته، في عهد عودة الملكية. هذه الجيوش تملك الامم اليوم، سفوراً أو مواربة. وعودتها الى الثكن مطلب من مطالب الساعة. تركيا الاسلامية المعتدلة حققت ذلك، وواجهت بحزم أحلام الجنرالات بالعودة الى ماضيهم السعيد. ايران ظنت انها حلت المشكلة بانشاء الحرس الثوري (والبسيج)، بديلاً عن الجيش النظامي، رغم بقاء هذا الأخير «رسمياً». وللحرس الثوري خيلاء مماثلة بأنه «مؤسس» الجمهورية او «حاميها». حركات التغيير الراهنة لن تبلغ منالها ومآلها ما لم تعد الخوذ الى الثكن، وباسرع ما يمكن. لعل الخطر الاكبر يتمثل في نموذج مصر. فالجيش، بالاحرى المجلس العسكري، يتحول بسرعة الى خصم لحركة الشباب، القوة الجوهرية في حركة التغيير. والعمائم، الظاهرة او الباطنية، في توافق معه. ليبيا تواجه شظايا الحركات المسلحة القاعدية، بعد سقوط القذافي الوشيك على الارجح. فيما يتطلع اليمن الى اصلاح المؤسسة العسكرية، بينما تنتظر سورية انحياز هذه المؤسسة الى صف شعبها.