لولا أن تنظيف شوارع طهران من الباعة المتجولين والمتسولين وتزيين الحدائق وأعمدة الكهرباء جاريان على قدم وساق، ولولا أن الدعوات وجهت فعلاً إلى المسؤولين في حركة عدم الانحياز، لكان خبر انعقاد قمة هذه الحركة في طهران في آخر هذا الأسبوع أشبه بالنكتة وليس حقيقة من تلك التي نسمع بها في عالم السياسة هذه الأيام، وخصوصاً في منطقتنا المنكوبة، حيث باتت الحقائق أشبه بالغرائب. إذ ما الذي يربط بين «عدم الانحياز» والجمهورية الإسلامية الإيرانية كي تتحول العاصمة الإيرانية إلى ملتقى لقادة تلك الحركة؟ لقد ولدت حركة عدم الانحياز في ظل استقطاب عالمي بين القطبين الأميركي والسوفياتي في مطلع الستينات من القرن الماضي (1961 في العاصمة اليوغوسلافية آنذاك بلغراد) وقامت في الأساس كحركة وسطية بين الكتلتين الشرقية والغربية. ومع أنها كانت حركة معادية للاستعمار (بما في ذلك محاربتها الهيمنة السوفياتية على دول أوروبا الشرقية خلال الحرب الباردة) فإن نهجها كان نهجاً استقلالياً بالكامل، بل كانت تسعى إلى التقليل من حدة الأزمات الدولية ما استطاعت. لكن هذه الحركة التي ضمت في عداد مؤسسيها قامات كبيرة مثل جوزف تيتو وجواهر لال نهرو وجمال عبدالناصر، لم يبقَ من أفكارها سوى الاسم، خصوصاً بعدما انتهى العالم إلى سيطرة قطب واحد، على رغم أن روسيا تحاول شد عضلاتها في بعض الأزمات الدولية، كالأزمة السورية، لإثبات جدارتها في خلافة الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي المنهار. وإذا كان لأفكار عدم الانحياز أن تنتعش من جديد فإن ذلك لن يكون بالتأكيد على يد الرئاسة الإيرانية لهذه الحركة خلال السنوات الثلاث المقبلة. ذلك أنه، ومن دون مبالغة، هناك بحر عميق يفصل بين المبادئ والسياسات التي نشأت حركة عدم الانحياز للدفاع عنها وبين تلك التي تدافع عنها بل تحارب من أجلها الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ قيامها. فإذا كان مؤسسو تلك الحركة قد شاؤوا لها أن تتبنى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وأن تعتمد سياسة الاستقلال الكامل في الصراعات الدولية، وأن تمتنع عن اتخاذ خطوات عدائية من جانب واحد ضد أحد أعضائها أو ضد أي دولة أخرى، فإن سياسات إيران هي أبعد ما تكون عن ذلك. فطهران، منذ نجاح الثورة الإسلامية فيها، تباهي برغبتها في تصدير ثورتها إلى الخارج، وهي تخوض اليوم صراعاً عميقاً مع الولاياتالمتحدة والغرب بسبب برنامجها النووي، يمكن أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية كبرى، كما تتعجّل طهران لاستثمار سقوط نظام وحلول نظام آخر مكانه، لاعتقادها أنه سيتبع سياسات موالية لها، وهو حالها مع ثورات «الربيع العربي»، التي سارعت طهران إلى اعتبارها «نسخة إيرانية»، مع أن القائمين على هذه الثورات أعلنوا تبرؤهم منها وانكبابهم على الاهتمام بالشؤون الداخلية في بلدانهم، بعيداً من الديماغوجية التي تميز خطب المسؤولين الإيرانيين. غير أن هذا الجدل الأيديولوجي في شأن وظيفة حركة عدم الانحياز ونجاحها في أداء دورها هو أبعد ما يكون عن اهتمامات القادة الإيرانيين. فهم ينظرون إلى الانتقال الدوري لرئاسة الحركة من القاهرة إلى طهران، على أنه «انتصار» لوقفتهم ضد «قوى الاستكبار»، والتي يقصدون بها الولاياتالمتحدة وحلفاءها. وعلى هذا فإن القادة والمسؤولين الذين يحزمون حقائبهم هذا الأسبوع للسفر إلى طهران يجب أن يدركوا أن رحلتهم ستنجح في كل شيء، ما عدا إحياء حركة عدم الانحياز من سباتها العميق.