من خلال نظرة تاريخية مختصرة على مفهوم ومصطلح ونشأة حركة دول عدم الانحياز يتبين لنا أن هذا المفهوم ولد نتيجة التحولات والمتغيرات والظروف الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم في ذلك الوقت إلى معسكرين تتجاذبهما الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، والذي أفرز بدوره تخوف الكثير من الدول حول العالم من الزج بها في أتون حرب عالمية ثالثة بين القطبين السابقين، فيما أطلق عليه لاحقا بالحرب الباردة، ورغبتها- أي- تلك الدول في البقاء بعيدا عن تلك التجاذبات والصراعات والمشادات بين القطبين، والتفرغ للتعمير والبناء والتطوير والمحافظة على استقلالها. ومن هذا المنطلق وتلك الرؤية نستطيع أن نستنتج أن معنى مصطلح ومفهوم عدم الانحياز، والذي أفرزته الظروف التاريخية سالفة الذكر يعني أنه موقف تتخذه دولة ما لتبقى بعيدة عن الصراعات أو التجاذبات التي يمكن أن تزج بها في حرب ما، ويعني كذلك: موقف تبقى بموجبه خارجة عن نطاق حرب بين دولتين أو فريقين أو أكثر، وهو ما يعني بدوره بقاء تلك الدولة في حالة سلم في علاقاتها السياسية مع جميع أطراف الصراع، وعلى ذلك تشكلت أهم أهداف حركة عدم الانحياز كما بلورتها المؤتمرات الأولى للحركة في حرصها على التعايش السلمي بعيدا عن إبرام أحلاف عسكرية سواء أكانت جماعية أم ثنائية. وبالنظر إلى حال واقع هذا المفهوم اليوم من خلال نظرة سريعة على وضع الدول التي تنضوي تحت جناحه عالميا في ظل المتغيرات والتحولات الدولية وضربات العولمة والحرب الكونية على الإرهاب وازدواجية معايير التدخل الإنساني والمصالح العابرة للقارات وتغيير فلسفات ونظريات الصراع الدولية وخلافه، والتي فاقمت من التعقيدات الأيديولوجية للحركة، وهو ما أدى بدوره إلى تزايد مساحة الخلافات الداخلية بين أعضائها بسبب تكوينها غير المتجانس، أو بسبب ضغوط القوى الكبرى عليها، والذي افرز بدوره ظهور العديد من التناقضات بين المصالح الفردية لدول حركة عدم الانحياز. وهو ما يؤكد لنا بأن هذا المفهوم وبالرغم من بقاء أصوله النظرية والفلسفية، إلا أن الواقع يشير إلى موته إكلينيكيا أو سريريا من الناحية التطبيقية منذ فترات طويلة، والدليل على ذلك أن العديد من دول حركة عدم الانحياز اليوم لم تقدر أن تنأى بنفسها عن صراعات وتجاذبات الدول الكبرى، وهو ما زج بها عن قصد أو عن غير قصد في اللعبة الدولية التي أرادت أن تتحاشاها من خلال تبنيها لمفهوم حركة عدم الانحياز. فنادرا جدا بالنسبة لأي دولة أن تتمتع بالحرية الكاملة أو الاستقلال الكامل، فأغلب دول العالم اليوم بما فيها القوى الكبرى لا تملك سيادتها الكاملة على قراراتها الداخلية، فكيف بها بالقرار السياسي الخارجي؟!، وبمعنى آخر، إن جميع دول العالم، اليوم بلا استثناء ومهما حاولت الابتعاد عن الصدامات التي تتسبب بها التحولات والتجاذبات العابرة للقارات في السياسة الدولية، فإنها لن تستطيع ذلك، وشخصيا أشبه ذلك الوضع بشخص يقود سيارته دون أخطاء، ولكن في نفس الوقت لا يمكن أن يضمن أخطاء الآخرين التي يمكن أن ترتكب في حقه، وبالتالي يمكن أن تتسبب له بمشاكل لم يكن له يد فيها. كما أنه وبنظرة تاريخية على مسيرة تلك الحركة منذ قيامها وحتى اللحظة الراهنة، نجد العديد من المؤشرات والدلائل على أن العديد من دولها أو أعضائها متحيزون لقضايا وأعضاء وتكتلات معينة، بل إنها متحيزة لبعض أعضائها دون البعض الآخر. فالجسم الدولي كتلة واحدة، يتداعى بأكمله في حال تعرضه لأي أزمة سياسية كانت أو اقتصادية، فأزماتنا اليوم أزمات عابرة للقارات وقابلة للتصدير إلى مختلف أرجاء العالم، فالدول "كلها تعيش في بيئة دولية كبيرة، لذلك فإن تصرف أي دولة يؤثر في الدول الأخرى، وإذا كان هذا صحيحا في الماضي فقد أصبح الآن واضحا وجليا ويحس به كل الناس تقريبا بسبب التطورات التي حدثت في مجالات الثورة الاتصالاتية، والتأثير والتأثر بين الدول أصبح كبيرا جدا، وهذا ما يسمى بالمفهوم السياسي "بمنطق الاعتمادية" والتي تعني أن ما تفعله أمة ما يؤثر في باقي الأمم في النظام ذاته". نعم.. هنا تتضح لنا الحقائق جلية ودون لبس وغموض، إنه ما من دولة من دول العالم اليوم قادرة على أن تتملص من براثن اللعبة الدولية وتجاذبات مصالح الدول الكبرى التي تشدها وتتجاذبها مهما حاولت أن تقف على جانب من الحياد الإيجابي أو حتى السلبي أو عدم الانحياز لطرف على حساب طرف آخر كما تدعي أو تسعى جاهدة لتحقيق ذلك، لأن الغالبية الساحقة من كتلة الدول الأعضاء هي منحازة شاءت أم أبَت سياسيا أو عسكريا أو اقتصادياً أو حتى ثقافياً أو إعلامياً.