لا شيء يوحي بأن لبنان الذي لُقب ب «سويسرا الشرق» يستقبل طلابه المغتربين هذا الصيف بأجواء متحررة عنوانها السياحة والترفيه والسهر، كما في إعلان وزارة السياحة. ويصر الإعلان على أن لبنان يمتلك كل المقومات التي تجعل منه وجهة سياحية تضاهي لندن وباريس وغيرهما من عواصم العالم. وبما أن شهر رمضان يتزامن هذه السنة مع العطلة الصيفية للطلاب اللبنانيين الذين يستكملون تعليمهم في الخارج، فذلك يضيف قيمة مميزة على إجازتهم، إذ يستطيعون عيش الحياة الأسرية واللقاءات الأسرية بعد طول انقطاع. لكن تلك الصورة التي يمكن رؤيتها من بُعد لا تبقى نفسها عند البحث في التفاصيل، والفروق الحقيقية بين الحياة التي يعيشها الطلاب خارجاً وما يعيشونه في بلدهم تبدأ الظهور، وان كانت التناقضات لا تظهر بهذا الوضوح لطلاب قادمين من مجتمعات عربية أكثر محافظة. وإذا كانت العائلات لا تقف عائقاً أمام نمط الحياة اليومية القائم على السهر والخروج مع الأصدقاء وممارسة النشاطات الترفيهية، يبقى إن مشاكل أكبر وأهم تمثل حقيقة التناقض بين العيش في بلدين مختلفين تماماً. فالشاب اللبناني كمال بعاصيري الذي يستكمل دراساته العليا في فرنسا، يطرح قضية أساسية يشكو منها زملاؤه اللبنانيون في الخارج. ويقول بعاصيري: «في فرنسا نعيش حياتنا تماماً كما غيرنا من دون تفرقة ونتعلم النظر إلى الآخرين بعيداً من طائفتهم وانتمائهم تحديداً، ولكن ما أن نعود إلى لبنان حتى تستيقظ فينا روح التفرقة ونبدأ التمييز». ويجد بعاصيري في هذه الأطر الفكرية الضيقة المشكلة الرئيسية التي يواجهها الطلاب «المغتربون»، فهم يضطرون إلى العيش حياة مزدوجة بين الأفكار التي يتلقنونها في لبنان وتلك المتأصلة في الدول التي يدرسون فيها. وحين نسأل بعاصيري عن تأثير هذه المشكلة، لا يتردد في الإجابة أن «الأهل غالباً لا يفهمون أنه باتت لأولادهم أفكار خاصة ناتجة من دراستهم في الخارج، فما أن يصل الأولاد إلى منازلهم حتى يعيدوا إلقاء المواعظ نفسها عليهم: لا تذهبوا إلى هذه المنطقة، لا تحدثوا هؤلاء الأشخاص لا تتكلموا إلا باسم هذا الحزب أو التيار... الخ». زيجات مدبرة! المشكلة التي يطرحها بعاصيري ليست وحدها ما يواجه الطلاب اللبنانيين الذين يشعرون بالحنين إلى أسرهم أثناء غيابهم، لكنهم يعانون من الحواجز التي تقف بينهم وبين مجتمعهم حين يصلون إلى بلدهم. فما ترويه الشابة كاميليا يجسد أيضاً مشكلة عميقة، فأهلها غير مقتنعين بسفرها وحدها ومتابعة دراستها في بريطانيا بلا زوج أو خطيب. وعند كل زيارة للبنان تجد كاميليا أسرتها وقد دبرت لها عريساً جديداً لعلها تقبل به وتتخلى عن حياة السفر، فينشب نزاع بين كاميليا وأهلها للسبب نفسه. فهي تحاول إقناعهم بأنها لا تريد الزواج قبل أن تتمم دراساتها العليا. وتستغرب كاميليا وجود مثل هذه الظاهرة في لبنان الذي يفتخر «بكونه بلد الحداثة والعصرنة»، ولا تخفي هذه الطالبة اللبنانية التي تعيش في إنكلترا إمكان انقطاعها عن زيارة بلدها في حال أصرت عائلتها على تزويجها بشكل مدبر. وإذا كانت الأمور لا تصل إلى حد البحث عن الزوج الملائم بالنسبة إلى الطالبات اللواتي يطمحن إلى بناء أنفسهن في الخارج، يبقى من الصعب على كثيرات مواجهة إصرار الأهل المستمر على ضرورة الاستقرار في بلدهن وفي المنزل العائلي «تجنباً لكلام الناس والإشاعات حول حياة فتاة تعيش في الخارج». وهذا ما تشير إليه صراحة الطالبة دانييلا صياح التي تدرس الطب في الولاياتالمتحدة، وكلما زارت عائلتها، تسمع كلاماً مسيئاً عن كونها لا تمتثل لقرارات العائلة وأن «مصيرها لن يكون جيداً في حال استمرت بالعيش وحدها في بلاد الغربة». وعلى رغم أن دانييلا كانت ترغب في العمل في لبنان بعد إنهاء دراستها، إلا أنها اليوم تعيد حساباتها وتجد أن مستقبلها ربما يكون أفضل في الولاياتالمتحدة «مهما كان رأي الأهل في ذلك». حياة مزدوجة إلى متى؟ وعلى رغم الهالة التحررية التي يُحاط بها لبنان، فالطلاب اللبنانيون الذين يدرسون في الخارج يجدون أنهم من أكثر الشباب العرب معاناة عند العودة إلى وطنهم، وذلك بسبب الأزمات على الصعد كافة، اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية. وهذه الحياة المزدوجة التي يعيشها الطلاب تسبب لهم مشاكل نفسية، حتى أن بعضهم يقرر الالتزام بحياة الغربة بدل العودة عند انتهاء فترة الدراسة. ولا تجد المتخصصة في العلوم الاجتماعية ليلى الأطرش إلا حلين أمام الشباب اللبناني الطامح إلى الدراسة خارج بلده: التأقلم مع المشاكل التي يمكن أن يواجهها عند مجيئه إلى لبنان والتعايش معها على أنها موقتة، أو مواجهتها بشكل جذري من خلال الحوار مع أفراد الأسرة للتوضيح أن هناك وجهة نظر مختلفة يجب أخذها في الاعتبار. وتفضل الأطرش الحل الثاني لكي لا تتكرر المشاكل عند كل زيارة. وإذا كان السؤال الأساسي الذي يطرح في هذا المجال هو: من الذي يلام في الصراع الذي يعيشه الطالب «المغترب»؟، تجيب الأطرش بأنه لا يمكن لوم الأهل لأنهم لم يعشوا التجربة نفسها التي اختبرها ولدهم، وبالتالي هم متمسكون بأفكارهم ومن واجب الشاب أو الشابة محاورتهم للتوضيح. من ناحية أخرى، تجد الأطرش أن من الضروري أن يشارك الطالب أخبار سفره مع أهله حتى قبل قدومه إلى لبنان لكي لا تكون هناك مفاجآت، فيخبرهم عما يجده مختلفاً مثل الأنظمة والقوانين والتصرفات الاجتماعية والسلوكيات. وبهذه الطريقة لن يشعر الأهل بانعزال ولدهم عنهم، بل بالعكس يتعرفون بدورهم إلى ثقافة جديدة.