لم يمرّ يوم منذ عشر سنوات من دون أن يستيقظ الجيران على صوتها. أمّ وليد، التي هاجر زوجها إلى بلد عربيّ مخلفاً وراءه 4 أطفال، تقرّ بأنّها تفقد قدرتها على التحمّل تدريجياً، وتعبها كبير من تحمّل مسؤولية مزدوجة. منذ الخامسة صباحاً تستيقظ لتسهيل أمور أولادها، إلا أنّ أقلّ خطأ منهم يدفعها الى أزمة عصبية قد لا تنتهي قبل المساء. «هذه حالي منذ عشرات سنوات، أصحو على الصراخ وأنام باكية، ولا من يساندني أو يقف الى جانبي في محنتي»، بحسرة تروي أم وليد المعاناة التي تعيشها بسبب هجرة زوجها منذ أكثر من عشر سنوات، فالبحث عن لقمة العيش دفعه الى السفر، إلا أنّ الأمور لم تكن كما أراد، اذ كان عمله مزدهراً في السنوات الأولى لإقامته، وسرعان ما تدهور حتّى بات غير قادر على إعالة عائلته من خلال وجوده في الخارج. تناشد أمّ وليد زوجها كلّما اتصل بها أن يعود الى بلده، إلا أنّ «الفجوة بيننا صارت كبيرة، فهو لا يشعر بانتمائه الى هذه العائلة. ابنه الذي تركه بعمر الأربعة أعوام بات مراهقاً عمره 14، ويرفض الكلام مع أبيه»، كما تقول. حال أم وليد باتت ظاهرة شائعة في المجتمع اللبنانيّ، فالهجرة تضرب الأسرة اللبنانية في الأعماق، والأرقام الى تزايد، ووفق دراسة قام بها مؤخراً الدكتور رياض طبارة تحت عنوان «واقع الشباب اللبنانيّ» ضمن مشروع للأمم المتحدة، تبيّن أنّ 54 ألف لبنانيّ يهاجرون سنوياً، من بينهم 15 ألف شاب لا تتعدّى أعمارهم ال29 عاماً. هذه الأرقام تُظهر حجم المشكلة، اذ يتحوّل المجتمع اللبنانيّ تدريجياً الى مجموعة من الأسر التي تسير من دون توجيه من قبل ربّان الأسرة، أي الأب. الأسباب واضحة للعيان، فالبحث عن تحسين مستوى المعيشة هو السبب الأول لهجرة الأب، الذي يشعر بأنّه غير نافع في وطنه بسبب ندرة فرص العمل فتكون الغربة هي الحلّ. تقول لمى (35 عاماً)، التي سافر زوجها منذ خمس سنوات واعداً إياها بأنّه سيعود ولن تضطر الى السفر: «يقولون إنّهم سيذهبون لسنتين فقط ويعودون محمّلين بالأموال، لكن هذا خيال ليس أكثر، فمن سافر لن يعود الى لبنان إلا بمعجزة». وتؤكد أنّها غير قادرة على هجرة لبنان بسبب حاجة والديها المريضين إليها، إلا أنّ بُعد زوجها عنها «يدمّرها» تدريجياً، خصوصاً أنّ لديهما ابناً في السابعة من عمره وهو يسأل دائماً عن أبيه وعن سبب غيابه. وتقول لمى: «يأتي زوجي مرّة في العام الى لبنان، وغالباً ما تكون عطلته خلال فترة الأعياد، إلا أنّني لا أستطيع أن أفاتحه بأي مشاكل خلال هذه الفترة، فهو يأتي ليرتاح». وتحزن لطريقة تعامل ابنها مع الوضع، اذ يصبح بارداً عند وصول أبيه الى لبنان، بسبب جفاء المشاعر والبعد. تختلف نماذج الزوجات اللبنانيات اللواتي يتعاملن مع الغربة بكلّ قساوتها، خصوصاً أنّ هناك ظروفاً تمنع الاتصال الدائم بين المرأة وزوجها. إلا أنّ هناك أيضاً من الزوجات من يتعاملن مع الموضوع براحة أكبر، فكريستل (37 عاماً) تعتبر أنّ علاقتها مع زوجها أصبحت أكثر تشويقاً بعد سفره منذ ثلاث سنوات. وتقول كريستل: «أنصرف إلى عملي خلال غيابه وأتابع دراسة ابنتي البالغة من العمر 4 سنوات، ويأتي زوجي الى لبنان مرتين في العام فنقضي أجمل الأيام، لا يحظى بمثلها الكثير من الازواج في لبنان». هذه النظرة الإيجابية تسهّل قضية الغربة، إلا أنّ التساؤل يبقى: الى أي حدّ يمكن تحمّل بعد الزوج؟ وأي فترة زمنية هي الحدّ الفاصل قبل أن تصبح المسؤوليات منهِكة للأم، خصوصاً تلك التي تعمل خارج المنزل أيضاً؟ وكما للأمهات والزوجات في لبنان رأيهن، كذلك للأزواج المهاجرين رأيهم في هذه القضية. هاني (40 عاماً) ترك لبنان منذ ست سنوات للعمل في بلد أوروبيّ تاركاً زوجته وطفليه الصغيرين، ويعدّد، عبر بريده الإلكتروني، المشاكل التي يعانيها هو أيضاً، ويقول: «لا يمرّ يوم من دون أن أتذكر عائلتي وأحزن لتركها. أحاول قدر الإمكان تعويضها مادياً، إلا أنّ ذلك لا ينفع كثيراً، فابني لا يحبّذ التكلّم معي عبر الهاتف، وأجد نفسي بعيداً جداً من طفليّ وزوجتي، وأشعر بالأسى حين تضطر الى تحمّل المسؤوليات كلّها». ويصعب على هاني نقل عائلته الى البلد الذي يعمل فيه، فهو نفسه لم ينل الجنسية بعد. وفي السياق نفسه، يبحث أيمن (45 عاماً) عن كلّ السبل للتواصل مع عائلته بعد غربة امتدت لأكثر من عشر سنوات، فهو انتسب الى فايسبوك وبات الMSN جزءاً من حياته اليومية ليتابع أخبار عائلته ويتصل بزوجته. ويقول: «لا أعرف ماذا كنتُ لأفعل من دون الإنترنت، فهي الحلّ الأفضل للتواصل عند سفر الأب». وكلام أيمن ليس غريباً، فقد باتت الهجرة أكثر سهولة بالنسبة الى عدد كبير من الآباء اللبنانيين بسبب التواصل السريع بين القارات من خلال الإنترنت. ولكن هل يمكن للتواصل الإلكترونيّ أن يحلّ مكان التواصل البشريّ خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالأزواج والأبناء؟ حالات الانحراف المتزايدة التي تسجلّ في لبنان بين صفوف الأطفال والمراهقين تشير إلى مشكلة جذرية في عمق الأسرة اللبنانية، ولا يمكن إلا ربط بعض هذه الانحرافات بغياب الأب وسفره للعمل خارجاً. وهذه الحالات تتركّز تحديداً في فئة الذكور، حيث يجد الصبيّ نفسه بحاجة لأبيه ولتقليده وللنقاش معه حول مواضيع مختلفة. وتزداد المشكلة تعقيداً إذا كان الابن في مرحلة البلوغ والمراهقة، لتصبح حالات التمرّد هي المسيطرة. وقبل إلقاء اللوم على الأب في هجرته واضطراره للسفر وترك عائلته، لا بدّ من التركيز على السبب الرئيسي للهجرة الذي يبقى مرتبطاً بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي تقيّد الأسر اللبنانية باختلاف ظروفها، وأي حلّ لمشكلة الأسرة المتصدّعة ينطلق من تحسّن الأوضاع المعيشية أولاً.