يجد العرب والأكراد والتركمان من سكان كركوك في لعبة «الصينية» الرمضانية فرصة لتجاوز الخلافات التي تشوه العلاقات بين الأهالي في المحافظة المتنازع عليها. وتشبه «الصينية» لعبة «المحيبس» التي يمارسها العراقيون في شهر رمضان في بقية أنحاء البلاد، وتدور حول العثور على نرد يوضع تحت فنجان من بين مجموعة فناجين قهوة تتنقل على طبق بين المشاركين في اللعبة. ويعود تاريخ هذه اللعبة الى عشرات السنين. يمارسها رجال وفتيان من جميع قوميات كركوك في أكثر من 150 مقهى شعبياً تتوزع في أحياء المحافظة وخصوصاً في مركز مدينة كركوك (240 كلم شمال بغداد). وبينها مقاهٍ مغلقة، وأخرى تقع وسط حدائق مطلة على نهر الخاصة وسط المدينة. وعلى رغم ارتفاع الحرارة التي تلامس الخمسين درجة مئوية، يحتشد المئات من اللاعبين والمشاهدين يومياً في هذه المقاهي التي تقع غالبيتها في مناطق القلعة والقيصرية ورحيماوه والشورجة، وسط إجراءات أمنية تهدف إلى الحؤول دون أي أعمال عنف. ويقول التركماني غني زين العابدين رستم وهو يجلس في مقهى الديوان وسط كركوك: «أول ما نفعله بعد تناول الإفطار، التوجه إلى المقاهي حيث نلعب «الصينية»، فهي أجمل ما نتسلى به خلال ليالي رمضان». ويضيف: «إنها لعبة ورثناها عن أجيال سابقة وتمثل هوية الكركوكيين». ويفيد باسم موفق (32 سنة) صاحب مقهى شعبي في حي عدن جنوبي كركوك، بأن «ما نريده إثبات حبّنا وتآخينا مع الأكراد والتركمان. نحب هذه اللعبة التي تمثل رسالة سلام وتزيد اختلاطنا وعيشنا المشترك، إضافة إلى كونها جميلة ومسلية وتحيي الموروث الشعبي». ويتنافس في المباراة فريقان يتألف كل منهما من ثلاثة لاعبين يتبادلون الأدوار للبحث عن النرد المخفي تحت واحد من بين 11 فنجان قهوة وضعت في صحن معدني كبير يطلق عليه اسم «الصينية». ويقوم أحد لاعبي الفريقين بطلاء قاعدة «الصينية» بمادة السكر المذاب مع الماء قبل توزيع الفناجين عليها، لينطلق بعدها الفريق الخصم برحلة البحث عن النرد الموجود تحت واحد من هذه الفناجين. ويفوز الفريق الذي يستطيع العثور على النرد بعد البحث في أقل عدد ممكن من الفناجين، إذ انه في كل مرة يعثر على النرد تحتسب الفناجين الباقية في «الصينية» نقاطاً. والفوز يكون من نصيب من يبلغ النقطة 101 أولاً. ويذكر أن المباراة الواحدة تتكون من 20 جولة، وأن أعضاء الفرق قد ينتمون إلى أكثر من قومية، أو إلى قومية واحدة بحسب الأحياء التي يمثلونها، والتي عادة ما تتنافس على لقب بطل كركوك. فولكلور ولغات وتستمر هذه اللعبة طوال الليل خلال شهر رمضان وحتى السحور، وتتخلل مزاولتها دبكات وغناء فولكلوري بالعربية والكردية والتركمانية، اللغات الرئيسة التي يتحدث بها أهالي كركوك. ويقول المهندس المدني فرهاد أزاد عمر (35 سنة) إن «جميع مكونات كركوك العرب والتركمان والأكراد ينظمون بطولة بلعبة الصينية في الأسبوع الثاني من شهر رمضان، ويحتفلون حتى الفجر بهذه اللعبة». ويضيف العراقي الكردي أن «الجميع ينسون أخطار الإرهاب والإجراءات الأمنية والحواجز الإسمنتية في هذه الأيام التي نريد أن نعيشها بحرية». ويؤكد متين صباح بائع الحلويات والمعجنات التي تشهد إقبالاً كبيراً أيام رمضان، أن أصحاب الحلويات «لا ينقطعون عن العمل خلال ساعات النهار ليستطيعوا تلبية حاجات الأهالي وخصوصاً المقاهي الشعبية أيام رمضان». بدوره يشير علي عادل (28 سنة) صاحب مقهى الديوان إلى أن «الإقبال على لعبة الصينية هذا العام هو الأكبر منذ عقود على رغم ارتفاع درجات الحرارة، لأن جميع الأهالي يبحثون عن التعايش السلمي وزيادة الترابط بينهم». ويقول أستاذ التاريخ في جامعة كركوك عصام صلاح الدين إن «مقاهي كركوك تشهد هذه اللعبة منذ عقود طويلة وتجتمع حولها جميع مكونات كركوك على رغم الخلافات التي تعصف بالسياسيين من مختلف الأحزاب. واللافت للانتباه هو أن الأهالي عموماً وأصحاب المقاهي الشعبية، خصوصاً من العرب والأكراد والتركمان، يُبرزون صفات الضيافة والسخاء والصداقة التي يتمتعون بها أثناء اللعبة. هذه هي كركوك». وتواجه كركوك الغنية بالنفط والتي يعيش فيها حوالى 900 ألف شخص يمثلون معظم أطياف المجتمع العراقي، تحديات ومشكلات مختلفة أبرزها التنازع على السلطة وأعمال العنف التي تلف العراق منذ العام 2003. ويطالب الأكراد بإلحاق كركوك بإقليم كردستان الشمالي، فيما يصرّ العرب والتركمان على إبقائها محافظة مستقلة مرتبطة بالحكومة المركزية.