تبدأ غالبية الكتابات المعاصرة عن القومية بالإشارة إلى إعادة اكتشافها، مع انتشار النزعات الإتنية والقومية، في معظم أرجاء العالم في أعقاب تفكّك الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة. وإعادة اكتشاف القومية لا يغمط حقّ هذا المفهوم بالأساس، في كونه مبدأ ناظماً للعلاقات بين الدول، ومصدراً للشرعية السياسية، وإطاراً جغرافياً مسلّماً به للحياة اليومية. فنحن من خلال القومية نبني طريقة إدراكنا للواقع المحيط بنا، ونعتمد أسلوب تفسيره (لنتذّكر هنا القومية العربية وما أثارته من نقاشات). لن يكون من الخطأ القول إن الأسباب التي أدّت إلى نشوء القوميات قد اختفت تدريجاً مع نهاية القرن العشرين، لكنّ الكتابة عنها ما زالت تتجدّد، كما يتبيّن من الكتابين الصادرين عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الأول للتركي أوموت أوزكيريملي في عنوان «نظريات القومية – مقدمة نقدية» ترجمة معين الإمام، والثاني للإنكليزي بندكت أندرسن في عنوان «الجماعات المتخيّلة – تأملات في أصل القومية وانتشارها» ترجمة ثائر ديب وتقديم عزمي بشارة. يحاول الباحث التركي أوزكيريملي في كتابه عن النظريات القومية مراجعة الميدان النظري، بمناقشة الكتابات حول القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في محاولة لتبيان الأفكار التي ساهمت في نشوء الفكر القومي، وارتقائه وتطورّه. أما كتاب الباحث الإنكليزي أندرسن فيتميّز في كلامه عن القومية بالتركيز على المجتمعات غير الأوروبية مثل الإندونيسية والتايلاندية. ترجع غالبية الدراسات أصول العقيدة القومية إلى الفكر الرومنطيقي الألماني، كما تجلّى بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وقد تأثّر مفكّرو تلك الحقبة تأثّراً شديداً بالركائز التي وضعها أسلافهم، لا سيما روسو وكانط وهردر وفيخته. يؤكّد كانط أن البشر لا يمكنهم أن يكونوا أحراراً، إلا حين يطيعون قوانين الأخلاق التي يجدونها داخل ذواتهم لا في العالم الخارجي. من هنا، أتت الصيغة الجديدة «النية الحسنة» تجاه الآخرين التي هي إرادة حرة مستقلة. وهذه الصيغة بالنسبة إلى ذلك الزمان تعتبر صيغة ثورية، لأنها وضعت الإنسان في مركز الكون ونصّبته حاكماً عليه. أما روسو الذي مارست أفكاره تأثيراً في كانط ومن أهمها فكرته عن «الإرادة العامة»، فيرى أن أعظم خطر يواجهه الإنسان حين يعيش في مجتمع «احتمال طغيان إرادة الآخرين». ومن أجل درء هذا الخطر يحتاج البشر إلى مبادلة إرادتهم الذاتية بالإرادة العامة. وهذه لا يمكن تحقيقها إلا إذا توافقوا على أن يكونوا بشراً طبيعيين، ليصبحوا مواطنين بدل ذلك. يقول روسو في هذا السياق: «البشر الطبيعيون يعيشون من أجل أنفسهم، بينما يعتمد المواطنون على الجماعة التي هم جزء منها». لا تقلّ مساهمة الألمانيين فردر وفيخته في تحديد أطر القومية عن روسو وكانط، ففيخته يتحدّث عن اللغة التي تحمل في طيّها التراث والتاريخ والدين ومبادئ الحياة بقلبها وروحها. اللغة حسب هردر شيء داخلي، تعبير عن أفكار الإنسان ومشاعره الجوانية الكامنة في أعمق أعماقه، مثل الروابط الثقافية الأخرى التي تربط أفراد أمة. هذه الروابط ليست «أشياء أو أدوات صنعها البشر مفروضة من الأعلى، لكنها طاقات حية تنبثق من الداخل». أما فيخته فيركز في دعوته القومية على توحيد ألمانيا «أريد أن أجمع... من فوق ترابنا المشترك كله رجالاً من عواطف وعزائم متشابهة وأربطهم معاً». باختصار كانت الرومانسية ثورة جماعية، وحركة للتجديد الأخلاقي والثقافي، وكانت على الأرجح أهم مصدر سياسي لفكرة القومية نظراً إلى أن الأمة أصبحت في سياق الثورة الفرنسية المصدر الشرعي الوحيد للسلطة السياسية، علماً أن الأمة تشير بدلالتها إلى فكرة المشاركة والمساواة، ومن هنا أتى شعار الثورة الفرنسية «حرية إخاء مساواة». لم ترق كثيراً الأفكار التي بثها مفكّرو الأنوار عن القومية ماركس وإنجلز فانتقداها في البيان الشيوعي، وأوضحا أن معارك النضال الوطني التي يخوضها العمال في مختلف البلدان، تستهدف توليد المصالح المشتركة لطبقة البروليتاريا برمتها «بغضّ النظر عن الجنسية». هذا فيما اعتبر عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم أن الجنسية الوطنية ليست سوى مجموعة من البشر ترغب لأسباب إثنية، أو ربما لمجرّد أسباب تاريخية في العيش تحت مظلّة القوانين نفسها، وتشكيل دولة واحدة. تشمل العناصر التكوينية للأمة في رأي دوركهايم العادات والتقاليد والمعتقدات المستمدّة من الماضي التاريخي المشترك، ومن ثم فإن لكل أمة روحاً وسمات خاصة بها، تجعل المؤمنين بها مستعدّين للتضحية بحياتهم. أما الفرنسي رنان فيرى أن الأمة «روح، مبدأ روحي»، قائم على تضامن واسع النطاق، يتكوّن من خلال الشعور بالتضحيات التي قام بها الفرد في الماضي، وتلك التي يستعد للقيلم بها في المستقبل، وتتكوّن من الرغبة في الاستمرار بحياة مشتركة. ويلخّص رينان جوهر الأمة بقوله: «جوهر الأمة هو اشتراك الأفراد جميعهم في أشياء كثيرة، وهو أيضا نسيانهم أشياء كثيرة». دخل الجدل النظري حول القومية منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي مرحلة جديدة مكمّلة لمرحلة روسو وهردر وفيخته ورينان. مرحلة سعى المفكرون فيها إلى تجاوز الجدل الكلاسيكي الذي هيمن منذ الستينات من القرن الماضي، عبر إلقاء الشك على الأركان الأساسية التي ارتكز عليها مفهوم القومية. يعتبر الباحث والمؤرخ الماركسي هوبزباوم أن البحث عن أصول القومية يجب التفتيش عنه، عند تقاطع السياسة والتقانة والتحوّل الاجتماعي، فالأمم ليست مجرّد نواتج للمسعى الهادف إلى إقامة دولة إقليمية، ولا يمكن أن توجد إلا في سياق مرحلة معيّنة من التطوّر التقاني. أضف إلى ذلك أن قوميات القرن العشرين تختلف عن قوميات الحقب السابقة التي كانت فيها القومية «توحيدية وانعتاقية»، فهي لم تعد مساراً رئيسياً للتطور، بل صارت سلبية في الجوهر، أو بالأحرى مثيرة للنزاع والخلاف، وتغدو وارثة للحركات الوطنية الصغيرة، وبمثابة ردود أفعال على الضعف والخوف، ومحاولات لإقامة متاريس لصدّ قوى العالم الحديث. تعدّ نظرية إرنست غلينر أهم محاولة للعثور على معنى منطقي مترابط لمفهوم القومية. وهو يتوكّأ في صياغته على عالمي الاجتماع إميل دوركهايم وماكس فيبر، بتمييزه بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة، وإقراره بوجود ثلاث مراحل في التاريخ البشري: مرحلة الصيد وجمع الثمار، مرحلة المعرفة والدراية بالزراعة، مرحلة الصناعة التي أفرخت القومية. وهذا ما يكمن خلف توكيد غيلنر من أن الأمم لا يمكن تعريفها إلا بتعابير عصر القومية، أي حين تنتشر الظروف الاجتماعية العامة التي تفسّر المعايرة والتجانس والثقافات العليا التي يتمّ الحفاظ عليها مركزياً بين السكان جميعاً، ولا تنحصر ضمن الأقليات النخبوية وحدها، ومن ثم فإن القومية هي التي تولّد الأمم لا العكس. أما نظرية بندكت أندرسون فتعتبر أن سبب التشوّش الاصطلاحي المحيط بمفهوم الأمة، يعود إلى اعتبارها بنية أيديولوجية، فيما تسهل الأمور لو اعتبرت منتمية إلى العائلة واعتبرت «قرابة» أو «ديناً» وقارناها بالأنظمة الثقافية الكبرى السابقة عليها وهي الجماعة الدينية والمملكة الوراثية. لن يكون من الخطأ القول إن الأسباب التي أدّت إلى نشوء القومية في الغرب قد تكون اختفت تدريجاً مع رياح التغيير التي حدثت بفعل التصنيع والتطورات التكنولوجية، أما في العالم العربي فالأسباب التي دعت إلى نشوئها ما زالت قائمة، وقد أثبتت الأحداث التي نجمت عن الربيع العربي، على ما يقال، أن القومية ليست موجة، أو موضة أكاديمية عابرة، إنما هي قدر الذين يسعون إلى تحديث مجتمعاتهم بالعمل على اعتماد الديموقراطية والعدالة والتنمية.