إن ما يلفت النظر هو أنه لم يكن هناك استبداد، لكي تحدث ثورة 23 يوليو في ما لو قارنا ما بعد الثورة بما قبلها، إنما هناك «عسكر» أشعلوا العالم العربي بتوحيدهم بين الثورة والقومية، أي ثورة عربية وقومية ثورية. تتحدث القومية العربية بلغة الثورة، وتثير الثورة الجماهير برفع الشعارات القومية. قبل أو بعد ثورة 23 يوليو. في ثورات سورية والعراق وليبيا والسودان والجزائر، كانت هناك حياة سياسية، تضمن حق التظاهر السلمي، وتنظيم الانتخابات الدورية. لكن تعطلت تلك الحياة السياسية بابتكار أعداء في الداخل وأعداء في الخارج تحت مفاهيم الرجعية والإمبريالية. رفضت القومية فكرة الأوطان، ورأت فيها فكرة ورّثها الاستعمار. وناضل القوميون من أجل الوحدة العربية. وساوق فكرةَ الرباط القومي فكرةُ الرباط الديني، لاسيما بعد نكسة 1967، وعطّل القومي والديني إصلاح المجتمعات العربية وتحديثها، لأن كليهما استند إلى فكرة إحياء على المستوى الديني وعلى المستوى الحضاري. وإنه من الدلالة بما كان أن تُسمى الأحزاب بأسماء كالبعث والنهضة والنور والوطني. إن ثقافة لم تكن تهتم إلا بالصراعات مع ما كان يسمى في تلك المرحلة التاريخية بالرجعيات المحلية والعربية والاستعمار الصهيوني والإمبريالي لن تصنع سوى ثقافة ومثقفين مناضلين. وتحول هذا النضال وبفعل نكسة عام 1967 إلى شعور متحفّظ إزاء الثقافة والمثقف المناضل، عبّر عنه عبدالله العروي بأن وظيفة المثقف ليس النضال، إنما ملء فضاء المجتمع العام. لا أريد أن أجمّد المقدمات التاريخية لتحديث المجتمع العربي والثقافة العربية في مستوى ما قبل العام 1953، لكن هذا ما يبدو من حال المجتمع العربي التي أعقبت ذلك التاريخ، إذ تراجع انفتاح المجتمعات العربية، وذبل العقل، واستسلم المجتمع العربي لحال قدرية. إنني أعتقد أنه في ما لو نجحت النزعة الإنسانية ودعاوى التحديث والإصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي، التي ظهرت في العالم العربي قبل ثورة 1952، لما ظهر التطرف في العالم العربي الحديث. حدث بعد ذلك ما نعرفه من العداء والقطيعة بين ثورة يوليو والإخوان المسلمين وسجن وإعدام وتوزع غالبية كوادرها في العالم العربي. وأدت هجرة بعض الكوادر إلى أجزاء من العالم العربي إلى أن تساعد في إخفاق النزعة الإنسانية والدعاوى التحديثية، والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في تلك الأمكنة، بسبب التواطؤ بين السياسي والديني، لذلك لم تتح الفرصة الكافية لكي يستوعب المجتمع العربي طروحات أولئك الرواد قبل ثورة 1953. لم يفكر الثوري ولا الديني أن استيعاب أطروحات ما قبل 1953سيحين وقته حتى لو تأخر. والآن نحن نعود إلى تلك المرحلة التاريخية، لنشير إلى وضع اجتماعي عربي ناقص يحتاج إلى أن يستكمل وبمبرر واقعي، كون المشكلات والقضايا العربية التي طرحت آنذاك لم تتجاوز فعلاً. لا يمكن أن نغفل دور القومية العربية التي أفرزتها ثورة 1953، والتي مثلت أيديولوجيا استمر زخمها عقوداً عدة دخلت معه الثقافة العربية في خريف طويل في كل العالم العربي، ذلك أن صراعاً نشأ في كل دول العالم العربي. وفي داخل كل دولة من دوله، كان هناك استقطاب مع الثورة أو ضدها، لذلك لم يعد مجال أمام السياسي والديني في العالم العربي إلا أن يتفقا، فالوحدة التي اقترحتها الثورة على أساس اللغة والعرق تنسف الوحدة على أساس الدين التي اقترحها الإسلاميون، والخلط الذي حدث بين الاشتراكية والماركسية ينسف فكرة الإيمان الديني، والتقدمية في مقابل الرجعية تنسف الملكية. لذلك لا مناص إذاً من التواطؤ. لجأ السياسي إلى الديني لكي يبحث عن مخرج تأويلي لدعاوى العدل والمساواة والمواطنة التي صدرتها الثورة إلى داخل المجتمعات العربية. ولم يكن الديني المحلي أو الهارب يملك إلا المنهج السلفي لحل مشكلة كهذه: أي أن يضمن الماضي لإنجاز إصلاحات داخلية تحت ضغط الخارج. لا دعاوى جديدة؛ أي لا أهداف سياسية واجتماعية وأخلاقية يجيب رجل الدين؛ فالقرآن والحديث تكفلا بذلك، حررا المرأة، وشرعا المساواة، ولم يدعوا إلى مواطنة تقتصر على قطر واحد؛ إنما إلى إنسان صالح قادر على أن يعيش بصلاح في أي مكان. لا جديد في ما يطرح حتى على مستوى مفاهيم كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان، فكل ذلك موجود في نصوص المجتمع المؤسسة. لتكن ممارسة المجتمع العربي معزولة عن ثقافته، ولتعش أجسام الناس في قرن، ولتعش أفكارهم في قرن آخر. هذه رؤية السياسي العربي. لتذهب البعثات، ولْتُبن المؤسسات، ولْتُستورد التقنيات، ولتُرفع مفاهيم التنمية الاجتماعية والثقافية في خطط، لكن بشرط أن تبقى الثقافة سلفية. لم يفكر الديني ولا السياسي في التناقض حين تكون حياة المجتمع العربي عصرية، بينما فكره سلفي تقليدي. سيرفع السياسي شعار التنمية وإلى جانبه الديني يضمن له أن الماضي يبرر أي إنجاز. على السياسي أن يفعل، وعلى الديني أن يؤول من غير أن يكون الفعل والتأويل معبرين عن واقع اجتماعي، فلا إشكالات، ولا حساسيات جديدة تعبّر عن حالات اجتماعية واقعية. فيما كان الديني بجوار السياسي شرعت السلطة الدينية تزاحم سلطة الدولة في العالم العربي عبر آليات التأويل والتفسير والفتوى، لتحل سلطة الدولة في مرتبة ثانوية. ترتب على ذلك أن كل خطوة تخطوها الدولة في اتجاه تحديث المجتمع تزيد من نقمة السلطة الدينية، وكل زيادة في هذه النقمة تكشف عن عجز الدولة، وكل انكشاف يصاحبه تردد وقلق وانعدام جرأة في اتخاذ القرار، لتصل الدولة العربية أخيراً إلى أن تخدم أهدافاً لم تحددها هي، وأن يصبح واجبها أن تهيئ الفرد لكي يقوم بما لم تطالبه هي به، وهو ما أدخل الثقافة العربية في خريفها الأول. ثم جاءت ثورات 2011 تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو شعار في حد ذاته مريب. مريب لأن الشعب لا يريد الحرية، ولأن الثوريين الذين يُفترض أن يتمسكوا بمفهوم الحرية أخفوها من شعارهم الثوري. ولئن كان من العجيب أن يُخفي شعارُ ما سُمّي بالربيع العربي مفهومَ الحرية، فإن الأعجب هو أن يُظهِر ذات الشعار «إسقاط النظام» لاسيما إذا عرفنا أن النظام هو المؤسسات التي تكوّنه، وأن المؤسسات هي أفكار اتخذت شكلاً كان في متناول أولئك الثائرين. يمكن أن أوصّف شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بأنه شعار هستيريا جماهيرية تريد أن تتحرر. وكما تعرّفنا الدراسات التي تناولت الثورات، فإن التحرّر هو شرط الحرية، لكنه قد لا يقود دائماً إليها. وأن نيّة الجماهير في التحرّر تختلف (لا تشبه) عن رغبتها في الحرية. ولئن نُسيت هذه البدهيّة، فقد آن لنا أن نعرف أن التحرّر هو ما طغى على الربيع العربي، ولف الحرية بالغموض. ترتب على التحرّر لا الحرية أن تكشّف الربيع العربي عن حركة إحياء غير مجدية تاريخياً. فإن ينهض نائب منتخَب وفي برلمان لا في مسجد، ليؤذن لهو عميق الدلالة على أن الربيع العربي هو في المقام الأول حركة إحياء، وإذ اخترتُ هنا «النائب المؤذن في البرلمان» مؤشراً أولياً على حركة إحياء سياسية، فإن محاكمة ممثّل مؤشر آخر على حركة إحياء ثقافية. لقد أطفأت ثورة 1953 ما كان يمكن أن يكون نوراً في المقدمات التاريخية لتحديث العالم العربي والثقافة العربية في المرحلة التي سبقتها، وهو ما يتكرر الآن مع ثورات 2011 في العالم العربي التي تطفئ ما تبقى من جمر تلك المقدّمات التاريخية لتحديث العالم العربي وثقافته هنا وهناك، ما يعني أننا دخلنا في خريف أظن أنه سيطول أكثر مما طال خريف الثقافة العربية الأول. قد يبدو ما قلته بسيطاً في تفسير ثورات اعتقدنا في جدواها. لكن الأهم أنني قرأتها من منظور الخريف لا الربيع، وهو ما كان واضحاً منذ البداية، لكن الخريف الذي دخلت فيه الثقافة العربية منذ أكثر من نصف قرن أخذ أعواماً حتى أشْعرنا في ما اعتقدنا أنه ربيع عربي.