قبل ذلك بثلاث سنوات ونيّف، كان قد وصل إلى أعلى ذرى المجد في بلده... بما في ذلك تزعّمه جماعة «البليّاد» (الثريا) واعتباره أمير الشعراء في زمنه. وصارت قصائده معتمدة رسمياً. في ذلك الحين كان يدنو من الأربعين من عمره، وهي سن متقدمة يستحبّ فيها، عادة، مجاراة التعقل والابتعاد عن المغامرات، وبالتالي عن المجازفات. ومع هذا فاجأ بيار دي رونسار، معارفه والسلطات وقراءه بإصدار كتاب أقلقهم جميعاً ودفعهم إلى التساؤل: ماذا دهاه هذا الشاعر الذي كثيراً ما غنى الحب وأنشد الحكايات الرومانسية، ينقلب فجأة إلى نمر سياسي غامض محوّلاً شعره إلى شعر هجومي كاسح؟ ماذا دهاه يقول في واحدة من قصائد الكتاب «ميتة هي السلطة الآن... وها هو كل واحد يعيش كما يحلو له». ويضيف «إنهم يحولون الأماكن المقدسة إلى مكان استعراض وفرجة» و «ها هي العدالة والعقل وضروب النور الأخرى تختفي ليحل مكانها اللصوص والعنف والدم والمذابح». هذا الكلام الذي جاء في أشعار رونسار يومها في شكل مفاجئ، يظل طبعاً صالحاً لكل زمان ومكان يحلّ فيهما التعصب مكان التسامح، والغرائز محل العقل. والحقيقة أن ما دفع رونسار إلى إطلاق ذلك الصراخ الأليم، في زمنه، لم يكن سوى الحروب الدينية التي اندلعت في بلده فرنسا، بين الكاثوليك والبروتستانت لتخلف المذابح والعصبيات والكراهية. وكلها أمور كان يخيل لشاعر «الثريا» قبل ذلك أنها لم تعد ذات وجود في بلد النور... فرنسا. كان ذلك خلال الربع الثاني من القرن السادس عشر. والكتاب الذي نشير إليه صدر في عام 1562 تحت عنوان «خطابات عن ضروب البؤس في زماننا». وهو، في الحقيقة، عنوان يشي بما في الكتاب، وبالتالي يشي بحال رونسار في ذلك الحين وبغضبه على كل ما يحدث في بلاده، حتى وإن كان قد آثر أن يهدي الكتاب إلى الملكة كاترين دي مديتشي، ويطبع الكتاب رسمياً في باريس. إذاً، ما لدينا هنا هو كتاب أشعار سياسية غاضبة... وبالتحديد مقاطع شعرية يبلغ عددها 250 مقطعاً لا تخرج، من ناحية الشكل، عن الأساليب البندارية (نسبة إلى الشاعر اللاتيني بندار الذي كان رائداً في وضع قواعد الشعر)، أما من ناحية المضمون فهي، كما أشرنا، أشعار سياسية راح فيها رونسار يرصد الواقع من حوله مبدياً أسفه وأساه، هو الذي كان ويبقى ذا نزعة وطنية كانت اللغة بالنسبة إليه ميدان تجليها. ذلك أن رونسار كان، ومنذ ما قبل ذلك بسنوات أحد العاملين في شكل جدي على تحديث اللغة الفرنسية المحكية موصلاً إياها إلى مكانة سامية كلغة أدب وشعر، في مقابل اللغة اللاتينية التي كانت هي السائدة وتعتبر الفرنسية إلى جانبها لغة حكي شعبي. بالنسبة إلى رونسار، كان العمل على تلك اللغة «المحكية» قضية وطنية بامتياز، وهكذا تجلى اهتمامه من خلال اشتغاله على مشروع «الدفاع عن اللغة الفرنسية» تحت إشراف دي ببلاي (منذ عام 1549). إذاً في هذا الإطار اعتبر رونسار أنه اشتغل من أجل بلده كثيراً. ولا يهمه بعد ذلك أن يكرّم هو شخصياً وأن يصير أميراً للشعراء أو شاعراً رسمياً للبلاط... فالمسألة، بالنسبة إليه، ليست شخصية. ومن هنا نراه وقد اعتبر اندلاع الحروب الدينية والأحقاد الطائفية والمذهبية التي راح كل طرف فيها يغني على ليلاه، هزيمة شخصية له، وأكثر من هذا: هزيمة للوطن، ولكل التضحيات التي قام بها شعب هذا الوطن. يعكس كتاب رونسار «خطابات عن ضروب البؤس في زماننا» هذا كله، إذاً، وربما يصح اعتباره أول مساهمة شعرية في ترسيخ النزعة الوطنية في تاريخ فرنسا. إذ من قبل هذا العمل، كان همّ الشعراء إما أن يعلنوا غرامياتهم وضروب عذابهم، وإما أن يمدحوا أصحاب السلطة، وإما أن يهجوا بعضهم بعضاً. رونسار ابتدع إذاً، وفي هذه الحدود التي نتحدث عنها، الشعر السياسي كما ابتدع بالتالي وظيفة جديدة للشعر. وكان دافعه إلى هذا، مجرد تأمله لحال وطنه، ذلك الوطن الذي كان يدمي الشاعر أن ينظر إلى أبنائه وهم يدمّرونه ويشوّهونه بخلافاتهم التافهة، التي تنبع كلها، لا من قضايا اجتماعية أو فكرية جادة، بل من خلافات مذهبية وطائفية وعصبيات تافهة «لا تنتمي إلى أزماننا الجديدة هذه» بحسب الشاعر الذي كان مدافعاً شرساً عن عصر النهضة، سائراً في ذلك على خطى زميله وسلفه الإيطالي الكبير بترارك. والحقيقة أن ذلك كله ملأ فؤاد شاعرنا شكوكاً راحت تطاول حتى نظرته إلى الدين المسيحي نفسه وراح يتساءل: هذه التركة الخلافية الثقيلة بين أبناء الدين الواحد، هل هي انعكاس سياسي لما هو قائم في زمننا، أم أنها موجودة أصلاً بذوراً دائمة في بنية الدين نفسه؟ وإذا كان هذا السؤال الشائك قد دفعه إلى أن يصرخ ذات لحظة غاضباً: إن كان الدين المسيحي نفسه يحمل في بنيته تلك البذور، أوليس من الأفضل أن نعود إلى الوثنية التي سبقته؟ بيد أنه لن يطيل المقام في فكرته «الخرقاء تلك» بحسب تعبير كاتبي سيرته، إذ أنه سرعان ما سيعود إلى التعبير عن تمسكه بالإيمان رابطاً ما يحدث بالأهواء السياسية التي «لا شك أن الدين منها براء». وإذ يهدأ بعض الشيء إثر توصله إلى هذه الفكرة التي تريحه، يبدأ من جديد في التعبير عن أن رغبته في الأساس إنما هي تهدئة خواطر مواطنيه ومعاصريه... وهو لهذا، يخفف من غلوائه الذاتية لحظة ليتوجه بكلامه إلى كاترين دي مديتشي قائلاً: «... ولكن انت، أيتها المليكة العاقلة، إذ تنظرين إلى هذا الخلاف، أولاً يمكنك، بصفتك القائدة، أن تصلحي بينهم جميعاً؟». غير أن هدوء الشاعر لا يطول... فهو، أولاً وأخيراً، شاعر وليس رجل سياسة وديبلوماسية، وهكذا ما أن يشعر بأن الفقرة الموجهة إلى مليكته قد قيلت، حتى يعاود الهجوم العنيف كرّة أخرى... ولكن ليس في ذلك الكتاب نفسه وإنما في كتاب ثان، أصدره في العام عينه ولدى الناشر نفسه وأعطاه عنواناً ذا دلالة هو «استكمال الخطابات حول ضروب البؤس في زماننا». وهنا من جديد عاد ليتوجه بخطابه إلى مليكته قائلاً: «سيدتي، لسوف أكون قد قُددت من رصاص أو من خشب إن لم أقل، - أنا الذي جعلتني الطبيعة أولد فرنسياً -، للأعراق المقبلة حجم الألم والبؤس اللذين بهما تمتلئ فرنستنا الحبيبة». وهنا يبدأ بالتخصيص، حيث نراه ينتفض فجأة بكل قوة ضد الإصلاحيين من حواريي البروتستانتي كالفن الذين اعتبرهم مصدر كل شرّ، قائلاً لهم: «إياكم أن تعظوا في فرنسا بإنجيل مسلح - بمسيح حامل سلاحاً مضرجاً بالدخان الأسود...». غير أن هذا كله لا يمنع رونسار من أن يظل رومانطيقياً في أشعاره هذه، كما في أشعاره الأخرى. وبيار دي رونسار الذي ولد عام 1524 توفي بعد ذلك بواحد وستين عاماً في 1585، في منعزل كان التجأ إليه، أواخر أيامه وقد استبد به المرض، بغية عيش بعض الوقت في هدوء بعيداً من صخب وشرور عالم لم يعد يروقه كثيراً. ورونسار الذي يعتبر حتى يومنا هذا من مؤسسي الشعر الفرنسي - باللغة الفرنسية نفسها بعد طغيان اللاتينية الفصحى قروناً طويلة - هو واحد من أكبر الشعراء الفرنسيين في كل الأزمنة. وله، إلى «الخطابات»، مجموعات شعرية رائدة مثل «غراميات كاساندرا» و «أمشاج» و «تواصل الحب» و «أناشيد». أما نتاجات سنواته الأخيرة فأهمها «سوناتات حول موت ماري» و «غراميات هيلين» (1578)... وهو لم يمت إلا بعد أن كان اشتغل بكثافة ونشاط على جمع أعماله الكاملة وإصدارها. [email protected]