انتقل الحديث في أروقة صنع القرار العالمي وفي الاجتماعات التي يجريها بعض المعارضين السوريين مع مسؤولين دوليين إلى تحديد ملامح الحل السياسي للأزمة السورية والمرحلة الانتقالية. ويدور النقاش، وإن همساً، حول الشخصية التي ستقود المرحلة المقبلة التي ستتجلى في حكومة مشتركة اقترحها كوفي أنان في جنيف وربما ناقشها في دمشق وبعدها في طهران وسيتفاوض عليها مع المعارضة المسلحة، كما صرح بذلك في أحاديثه الصحافية، في وقت يعاني اللاجئون السوريون خارج الحدود من قمع الأسلاك الشائكة ونهم الحنين إلى تراب المسكن وهواء الوطن القريب البعيد، وحين يشتكي النازحون في الداخل من عوز الحال وألم فراق الأحبة وصعوبة العيش في ديار تنام وتصحو على أصوات الرصاص والمدافع وهدير الطائرات، يغوص الخارجون في تفاصيل من سيأتي في المستقبل ومن سيقود المرحلة الانتقالية تاركين آلة القتل والتعذيب تعمل في السوريين ما لا يمكن الشفاء منه لسنوات وعقود مقبلة. كأن الشعب السوري قد انتفض من أجل أن يستبدل ديكتاتوراً وحيداً مع بعض الأعوان بشخصية تسلطية أخرى ربما تكون أقل إجراماً لكنها حتماً على المستوى نفسه من الفساد والمشاركة في تدمير مستقبل أجيال الوطن. إن أكثر ما يؤلم الثائرين حقاً، وما يصنع غصة حزينة في قلوب عموم السوريين أن يجعل بعض المعارضين من أنفسهم أوصياء على القرار الشعبي وأدعياء باسم غالبية أبناء الوطن وكأن الشعب قاصر لا يفقه شيئاً، كأن من حمل السلاح دفاعاً عن عرضه وكرامته، ومن دخل السجون وذاق مرارة التعذيب دفاعاً عن مبادئه في ضرورة العيش بعزة وعدالة، وكذلك هؤلاء الذين لا يزالون يهتفون للحرية متلقين بصدورهم العارية رصاصات الغدر والهمجية، كأن كل هؤلاء مرضى، وغير مكتملي النمو يعانون من المنغوليا السياسية والثقافية، وغير قادرين على معرفة الطريق التي سلكوها منذ البداية للوصول إلى وطن يتسم بالمساواة والعدالة الاجتماعية، لا مكان فيه للفاسدين والقاتلين على حد سواء، فالفساد والقتل وجهان لعملة واحدة، حيث أن نهب المال العام، والمشاركة في إفساد المجتمع، وإنشاء إمبراطوريات مالية، هي فعل مواز لفعل القتل إن لم نقل أكثر إيلاماً وتجريحاً في نفسية الأمة، كما أن استغلال السلطة والمنصب ونهب ثروات الوطن وغسل الأموال المنهوبة بطرق متعددة، والظهور بمظهر الحمل الوديع الذي لم يرض عن أفعال المجرمين الأصليين، هي جريمة كبرى بحق الأجيال المقبلة، ومن يطلب التوبة يحتاج إلى الوقوف أمام محكمة الشعب بعد رد المال المسروق، وطلب الصفح من كل أبناء الوطن، من صغيرهم إلى كبيرهم، وحينها يقرر الشعب صاحب الإرادة الحرة، مصير هؤلاء التائبين إن كانوا تائبين حقاً. جريمة الطغاة لم تبدأ مع بدء الثورة بل هي جريمة قديمة، بدأت مع اعتلاء هؤلاء سدة الحكم بمباركة قوى خارجية وداخلية ودعمها القوي، هذه القوى التي تتباكى اليوم على الفظائع المرتكبة بحق أطفال ونساء وشيوخ سورية من دون أن تقوم بأي عمل جاد يوقف هذه الجرائم. إن جريمة الطاغية نجمت عن أفعال غير شريفة متراكمة بحق الوطن، شاملة استغلال الكرسي لمصالح وهدر ثروات البلاد وتفكيك بنيان المجتمع وكتم الحريات العامة واستعمال العنف ضد المعارضين والقتل المباشر للمخالفين في الرأي، والجرائم الأخيرة من مذابح ومجازر جماعية ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، هذه الأفعال المتراكمة سببت وهناً في نفسية الأمة وإضعافاً للشعور الوطني والثقة الشعبية بمؤسسات البلد، إضافة إلى نشر المحسوبية واستغلال المناصب وتفشي الرشوة والفساد في كل مفاصل السلطة، وفقدان الأمل في النفوس بغد جميل مشرق. الجريمة بحسب المفهوم الاجتماعي هي كل فعل يتعارض مع ما هو نافع للمجتمع وما هو عدل في نظرها أي ما يتنافى مع مصلحة الوطن وتحقيق العدالة فيه، وهي انتهاك وخرق للقواعد والمعايير الأخلاقية للمجتمع، والجريمة لا تقتصر على المجرم الذي قام بفعل الإجرام فقط بل تشمل كل من أمر بارتكاب الفعل أو حرض عليه، كما تشمل كل من ساعد أو أعان الفاعل أو الفاعلين في الأعمال التحريضية أو المسهلة لارتكاب الجريمة. إن غسل الأموال الناتج عن نهب مال الشعب أو الرشوة أو حتى الإضرار بالمصلحة العامة، هي جريمة في حق الأمة تتشارك مع جريمة القتل والقمع ومصادرة الحريات، والشعب السوري ثار منذ البداية رافعاً شعار يكفي فساداً، يكفي نهباً لثروات البلاد، ولا يمكن لمن يحسبون أنفسهم أوصياء على الشعب ومستقبله، أن يغفروا لمن يشاؤون، ليصنعوا من جديد دولة مركزية تسلطية يقودها مجرمون يصفون أنفسهم بالتائبين الأتقياء، وهم الذين لم يكونوا ليتركوا سفينة الذهب التي ركبوها لعقود، لولا يقينهم إن هذه السفينة على وشك الانهيار والغرق في قاع المحيط الكبير.