... ويبقى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته إلى أذان العِشاء، ولم يكن يُعَجِّل بصلاة العِشاء، وإنما ينتظر؛ فإن رآهم اجتمعوا عَجَّل، وإن رآهم تأخروا أَخَّر، وكان يحب تأخيرها، لولا خوف المشقة على الناس. وقد أخَّرها مرةً، فجاء عمرُ رضي الله عنه إليه، فناداه: يا رسولَ الله، رقد النساءُ والولدان. فخرج ورأسُه يقطرُ، وهو يمسحُ الماءَ عن شقِّه، ويقول: «إنه للوقت، لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة». وأُقيمت صلاةُ العشاء ذاتَ ليلةٍ، فقام رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ لي إليكَ حاجةً. فقامَ معه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُناجيه، حتى نَعَسَ بعضُ القوم. وكان صلى الله عليه وآله وسلم أخفَّ الناس صلاةً في تَمَام، وقال أنس رضي الله عنه: «ما صليتُ وراء إمام قطُّ أخفَّ صلاةً، ولا أتمَّ صلاةً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». وكان يسمع بكاء الصبي مع أمه، وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة القصيرة؛ كراهية أن يشقَّ على أُمِّه، ويقول: «إني لأدخلُ في الصلاة، أريد إطالتها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في الصلاة؛ مما أعلمُ من شدة وَجْدِ أُمِّهِ من بكائه». فإذا قضى صلاةَ العِشاء تحدَّث إلى أصحابه، إن كان ثَمَّةَ عارض يريد أن يحدِّثهم به. ومن ذلك: أنه صلَّى ذات ليلة العِشاء في آخر حياته، فلما سلَّم قام فقال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتََكُمْ هذه، فإنَّ على رأس مئة سنة منها لا يَبْقَى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ». وأخَّر مرةً صلاة العِشاء، ثم صلَّى بأصحابه، ثم خطبهم، فقال:«أَلَا إنَّ الناسَ قد صلَّوا ثم رَقَدُوا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة». وأَعْتَم مرة بصلاة العِشاء، حتى ابْهَارَّ الليلُ، ثم خرجَ صلى الله عليه وآله وسلم فصلَّى بهم، فلما قضى صلاته قال لمَن حضره: «على رِسْلِكُم، أبشروا، إنَّ من نعمة الله عليكم أنه ليس أحدٌ من الناس يصلِّي هذه الساعة غيرُكم». فانقلب أصحابُه إلى دورهم فرحين ببشرى رسول الله لهم. وكان حديثُه بعد صلاة العِشاء نادراً وقصيراً؛ لتعب الناس وحاجتهم للنوم؛ ولذا كان يكره الحديث بعدها. وكان إذا سلَّم مكث في مكانه حتى ينصرف النساءُ، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا قام رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم قام الرجال. ثم يرجع صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، فيصلِّى ركعتين راتبة العشاء، ثم يجلس سُوَيْعَةً يتحدَّثُ مع أهله، يؤانسهم ويسمُرُ معهم قبل أن ينام، وربما ذهب يسمُرُ عند بعض أصحابه، فيسمُرُ عند الأنصار في بعض الليالي، ويسمُرُ مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في بيت أبي بكر، فيتحدَّثون في أمر المسلمين، فإذا خرج سارا معه يتمتَّعان بصحبته صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق حتى يدخلا معه المسجدَ. وربما مرَّ في طريقه بقارئ حسن الصوت من أصحابه يقومُ بالقرآن، فيقفُ مستَمِعاً لهذه القراءة الحسنة، كما مرَّ بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه ليلةً، فوقف يَستَمِع إليه، فلما أصبح لقيه، فقال له: «يا أبا موسى، لو رأيتَنِي وأنا أستمع لقراءتك البارحةَ، لقد أوتيتَ مِزْمَاراً من مَزَامير آل داود».