علم التسويق ومجال علم النفس والخبرة بالبشر تقول إنه لو طالعت نساء إعلاناً عن مجلة للرجال فقط، فإن حب استطلاع كبيراً سيسيطر عليهن للاطلاع على هذه المجلة التي تستثنيهن من قراءتها. ولو كان الإعلان موجهاً للنساء فقط، فإن أول ما سيبادر الرجال إلى فعله هو الاطلاع على المنتج المعلن عنه. فما بالك إن كان الإعلان عن قناة فضائية، ليست مخصصة للنساء فقط، بل هي مخصصة للنساء المنقّبات فقط لا غير؟! أصحاب فكرة الإعلان، ورعاة القناة نفسها يعلمون علم اليقين أن الجميع في هذه الحالة سيهرع إلى مشاهدة مثل هذه القناة العجيبة الغريبة المريبة، بدءاً بالرجال، ومروراً بالنساء غير المنقبات، وتأتي في ذيل القائمة النساء المنقبات أنفسهن! الإعلان عن إطلاق القناة في مطلع شهر رمضان المبارك باعتبارها أول قناة للمنقبات فقط، من فنيات، وإعلاميات، ومذيعات أتى بثماره وتسابقت وسائل الإعلام المصرية والغربية في نقل الخبر الساخن ومتابعة القناة التي ستحقق حتماً نسب مشاهدة مرتفعة، ليس بسبب تأكيد صاحبها على أنه يتوقع أن تكون «القناة الأكثر مشاهدة في رمضان» متحدياً وجبات البرامج والمسلسلات والحوارات الدسمة على متن مئات القنوات الطبيعية الأخرى، ولكن من باب حب الاستطلاع والاطلاع على عجائب هذا الزمان وطرائفه. هذا الزمان الذي أفرز قناة «الأمة» التي بدأت بثها قبل سنوات في لندن باعتبارها قناة ثقافية فضائية لنصرة الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وذلك بعدما تعذر بثها من مصر لأسباب أمنية! وينسب إلى صاحب القناة الصحافي (الذي يلقبه من حوله بالشيخ) أبو إسلام أحمد محمد عبدالله (واسمه الأصلي أحمد محمود عبدالله) قوله وقتها: «كنت أتمنى أن نبث من مصر، ولكن للأسف – ولا أخجل من قولها - نحن نتسول المال من المسلمين من أجل استمرار عمل القناة، ولذلك أعلن أننا مستعدون لقبول أي تمويل حتى ولو كان مصدره غسيل الأموال أو تجارة المخدرات أو حتى أموال الربا، وكل من لديه مال يخشاه ليس عندنا حرج شرعي في قبوله على إطلاقه طالما أن الهدف النهائي منه خير وهو نصرة رسول الله في شعوب أصبح فيها الدين الإسلامي مهاناً إلى هذا الحد المخيف». صناعة التوتر الطائفي القناة التي أعلن صاحبها وقتها أن هدفها مكافحة التنصير ومقاومة الماسونية تفرغت للرد على عدد من القنوات المسيحية المتطرفة، حتى تحول المشهد فيها إلى ما يشبه صناعة التوترات الطائفية بخطى ثابتة. وفي آيار (مايو) الماضي، تعرض مقر القناة لاقتحام من قوات الجيش وتم التحفظ على عدد من الأشرطة والاسطوانات المدمجة، وذلك على خلفية انتقادات للجنة الانتخابات الرئاسية. وانتهت الأزمة لتتفجر مفاجأة قناة المنقبات، وهي المفاجأة التي لا يتذكر أحد أنه سبق وتفجرت قبل خمس سنوات، لكن قنبلة إطلاقها توقفت قبل لحظة الانفجار. وها هي تنفجر في أول أيام الشهر الكريم في وجوه متابعي القنوات الفضائية. وعلى رغم أن إطلاق هذه القناة التي لا يظهر من مذيعاتها سوى أثواب سود فضفاضة وأصوات، أحدث اهتماماً إعلامياً كان بالطبع مرجواً من جانب القائمين على القناة والقناة الأم التي هي «قناة الأمة الفضائية»، إلا أن الجدل الذي أثارته جدير بالمتابعة. منظمات المجتمع المدني، لا سيما النسائية، والتي يبدو أن الكثير منها خرج ولم يعد في أعقاب تحول ثورة مصر المدنية إلى ثورة لتأصيل الحكم الديني، لم تنبس ببنت شفة. هذا السكوت قد يكون ناجماً عن صدمة «ركوب الثورة» من جانب تيارات الإسلام السياسي في شكل كامل، لكنه قد يكون أيضاً نوعاً من احترام الحرية الشخصية للجميع. ويشار إلى أن المديرة التنفيذية لمؤسسة «نظرة للدراسات النسوية» السيدة مزن حسن قالت إن القناة ترسل رسالة قوامها إن النساء المنقبات موجودات في مصر، وأن من المهم أن تكون هناك حرية في إقامة مثل هذه القنوات حتى يتمكن الناس من التعبير عن أنفسهم! كما أشارت إلى إصرار النظام السابق على منع المذيعات المحجبات من الظهور على شاشات القنوات المصرية الرسمية، وأنه كان يسمح لهن فقط بالعمل خلف الكاميرات. خروج مثل هذه القنوات قد يكون نوعاً من رد الفعل الطبيعي لسنوات من القهر والمنع في ظل النظام السابق، لكنه أيضاً يطرح الكثير من التساؤلات حول مستقبل الثورة المصرية، والمجتمع المصري، والمرأة المصرية التي تعد أبرز ضحايا النتائج العكسية للثورة المسروقة. اما ردود الفعل الدولية على إطلاق «ماريا» فاتضحت من خلال عشرات العناوين والتغطيات التلفزيونية للحدث في دول عدة. فصحيفة «ديلي ميل» البريطانية كتبت موضوعاً عنوانه «والآن مع أخبار النيو لوك: ستوديو تلفزيوني في مصر لا تعمل فيه سوى المنقبات». ووصفت الجريدة العاملات في القناة بأنهن «رموز لثورة مصر الثقافية في أعقاب الربيع العربي». واختارت جريدة «هيرالد صن» الأسترالية عنوان «المذيعات المنقبات يتبادلن نصائح الجمال على قناة مصرية للنساء فقط» وشرحت أن كل ما يفرق مذيعة عن أخرى هو الصوت وطريقة غلق العينين اللتين لا تظهران إلا من خلال فتحتين ضيقتين. أما وكالة الأنباء الفرنسية فقد جاء موضوعها تحت عنوان «قناة مصر المنتقبة تهدف إلى تغطية احتياجات المرأة». وتراوحت ردود فعل المواطنين على متن المواقع العنكبوتية، بين الشجب والتنديد بما سمّاه بعضهم ب «الجهل والتخلف» ونعته آخرون ب«الإمعان في تحقير المرأة واعتبارها أداة لممارسة الجنس يجب أن تتغطى لحين الاحتياج لاستخدامها». وبين مؤيدين لمثل هذه التجرية «التي طال انتظارها» والتي تعد «نصرة للمرأة المسلمة الملتزمة» و«تأكيداً لدورها في المجتمع حتى وإن كانت ترتدي النقاب»، وبين غالبية صامتة غير مصدقة أن هذا هو ما أفرزته مطالبات التغيير ونفض القهر والظلم وإعادة بناء مصر مدينة حديثة. وما دمنا ذكرنا مصر المدنية الحديثة، فلا بد من الإشارة إلى موجات تنديد ومعارضة للقناة المنقبة، لكنه ليس تنديداً ناجماً عن الانغلاق أو تحقير المرأة، بل هو ناجم عن «إشاعة الفتنة» و«انتشار المفسدة». الشيخ السلفي أبو إسحاق الحويني قال إن ظهور المذيعات المنقبات على الشاشة يفتح باب الفساد والفتنة، مؤكداً أن ظهورهن حرام شرعاً. وهو شبّه ظهور النساء في الفضائيات بما فعله قاسم أمين في حياته ودفاعه عن المرأة وتحررها من خلال بواطن الفساد. ولحسن الحظ أن قاسم أمين انتقل قبل ان يسمع هذا الكلام، إلى عالم أفضل كثيراً لا يشيع فيه الهراء ولا ينتشر فيه ازدراء المرأة التي اعتبر الداعية عبدالفتاح عويس ظهورها على قناة «ماريا» «تحريضاً على الفتنة»، متسائلاً عن المنفعة من ظهورها على الشاشة، ومؤكداً أن من الأفضل للنساء أن يبقين في بيوتهن ولا يخرجن على الرجال «لكي لا تثرن الفتن بأصواتكن». بقيت الإشارة إلى أن سبب تسمية القناة بهذا الاسم – كما شرح صاحبها «أبو إسلام» لعدد من وسائل الإعلام - هو «لوضع حد فاصل دون الاستعباد الذي أتت به ماريا كعبدة هي وأختها سيرين تحت حكم الكنيسة المصرية فأصبحت عند المسلمين حرة وزوجة رسول الإسلام محمد، فهي دلالة على الاستعباد الكنسي والحرية في الإسلام». يشار إلى أن «أبو إسلام» يُعرِّف نفسه بأنه أحد أبرز المهتمين بحوار الأديان!