في هذا اليوم، كان الخريف قد أتى. السُحُب نتف تمشي حرة، تتشكل على هيئة وجوه وأياد، أثداء وأجنة، طيور تقف على أشجار من قطن، تتبختر أمام الشمس، فيصير الغيم حُلواً والنور أبيض كالحليب. عَبَرَ الاتجاه الأول للشارع الرئيسي بحاراته الثلاث، ترك حذاؤه أثراً عميقاً على طمي الجزيرة الذي ارتوى لتوه بالماء العذب، نظر على بحر الاتجاه الثاني للشارع، وجد أن السيارات مُسرعة جداً، والمقهى الذي سيعبر له نَصَبَ مقاعد تحت الأشجار القليلة على جانبي الجزيرة، كما أنه لن يقطع تذكرة دخول للسينما المجاورة لهذا المقهى، فلقد صار له حبيبة يودها وتوده. اختارَ المقعد الواقع تحت الشجرة الأقرب لأثر قدميه، الذي امتلأ ببقايا الماء المُتسرب من فوهة الخرطوم الضخم. كان على الكرسي ورق شجر مُتساقط، أخضر كما كان على الفروع، لملمه ونثره على طمي الجزيرة، ثم طلب شاياً وعروق نعناع وزجاجة ماء. وأخذ يُراقب السيارات المُسرعة، ومباسم النرجيلة التي تلمع في الأيادي على الرصيف الثاني، وضرب حواف الملاعق لجدران الأكواب، والشمس التي ما زالت تطل على الدنيا من وراء حجاب، وضوءها الذي انفلت من بين الأغصان يرسم ظلال خلق الله، وينير حبات السُكر المنثور على الأقراص النحاسية المُنطفئة، وعصفوراً وقطاً وغراباً تشرب من الماء الذي تجمع، وهاتفه الذي اهتز أخيراً، فرَدّ... سألها عن يومها، أجابته بأنه مَرَّ بسلام «ولو حتى من دون سلام فقد مرَّ»، وأن «الجو مُختلف اليوم» لذا، فهي لم تعد للبيت بل ذهبت إلى مكانها على البحر، ابتسم وأكد كلامها حول الجو وأنه شخصياً يرى في السماء أشكالاً جميلة وغريبة، قاطعته قائلة بأنها ترى ما يرى من أشكال، كونها الزبد «في الغريق»، لتحمل مراكب الصيادين الخشبية الهشة، وعلى الشاطئ لتحمي الأطفال من الغرق، «فالبحر ظل السماء يا ولد، ولا يلتقيان في الأفق كما يتراءى للعميان، ولا تنعكس السماء إلا في بقع كالإسكندرية». تبسم قائلاً: ولهذا أحبُ الإسكندرية. - ممم... الإسكندرية فقط؟ ضحك وهي لم تضحك. سألها بعد أن سعل خفيفاً، إن كانت قد شربت أم نسيت كالعادة؟ والله زجاجة الماء في حقيبتي، لكني نسيت من الانشغال، سأشرب بعد المكالمة. ولم بعدها؟ الآن نشرب معاً، من الزجاجة مُباشرة كما تُحبين... هيا 3،2،1. قالت: «مجنون»، وضحكت، فضحك مرة أخرى، وأثناء الضحك وقبل أن يحل الصمت القصير الذي يلي كل بهجة، لمح بطرف عينه الدامعة أن الغراب قد طار، والقط لم يُهاجم العصفور بعد.