لا يمكننا أن ننظر إلى المشهد القبطي في مصر بعيداً من المواقف التي يتبناها المسيحيون في سورية، خصوصاً في دعمهم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، على رغم المذابح التي يتم ارتكابها في سورية على يد القوات النظامية، بحق المدنيين من أبناء الشعب السوري، ربما خوفاً من سيطرة تيار الإسلام السياسي على مقاليد الأمور في البلاد على النحو الذي شهدته مصر في أعقاب ثورة 25 يناير، خصوصاً أن العديد من المتابعين للموقف في سورية أكدوا أن الأوضاع الطائفية هناك ستتفاقم إلى حد كبير إذا ما سقط الاسد... وهنا يثور التساؤل حول موقف مسيحيي الشرق الذي صار مناوئاً لما أسفرت عنه ثورات الربيع العربي، بعد أن تمكن تيار الإسلام السياسي منفرداً من جني الثمار، والسيطرة المطلقة على مقاليد الأمور في بلدان عدة في منطقة الشرق الأوسط، ودعمهم إما لبقاء الأنظمة الديكتاتورية كما هو الحال في سورية من ناحية، أو دعم الموالين للأنظمة التي أسقطتها الثورة على غرار ما شهدته مصر خلال جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، رغم أنهم عانوا كثيراً خلال العقود الماضية شأنهم في ذلك شأن الطوائف الأخرى في المجتمعات العربية. كما أن موقف المعارضة الذي يتبناه الشارع المسيحي حالياً تجاه الولاياتالمتحدة في ظل دعمها المتواصل للإسلاميين خلال الفترة الأخيرة يعد مثاراً للتساؤل، خصوصاً أن قطاعاً كبيراً من الأقليات الدينية في الشرق الأوسط ظل ينظر إلى القوى العظمى في العالم باعتبارها حامياً. دعم الديكتاتورية يعد التحول الكبير في موقف المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط تجاه فكرة التغيير انقلاباً على التوجهات التي تبنوها في الماضي القريب، إلا أنها في الوقت نفسه تعكس تخوفات كبيرة لدى قطاع كبير من المسيحيين في المنطقة بأسرها، ظهرت بجلاء بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية وما ترتب على ذلك من حالة الانفلات الأمني غير المسبوق، والذي انعكس على الأقليات الدينية. فقد شهدت مصر خلال أشهر قليلة بعد سقوط نظام الرئيس مبارك عدداً من الأحداث الطائفية المتلاحقة والتي استهدفت الأقباط وكنائسهم في مناطق عدة، خصوصاً أن تلك الأحداث لم تلق رداً رادعاً من قبل أجهزة الدولة، في ظل ظهور تيارات إسلامية متشددة إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، أهمها التيارات السلفية والجهادية، تبنت شعارات متشددة بعد الثورة، وهو ما يعد تكراراً لمعاناة الطوائف السنية والمسيحية في العراق في أعقاب سقوط نظام صدام حسين. من ناحية أخرى لم تتمكن تيارات الإسلام السياسي من احتواء مخاوف الأقليات الدينية في دول الربيع العربي، وظهر ذلك بجلاء في التصريحات التي أدلى بها عدد من الشيوخ السلفيين، والتي اتسمت بقدر كبير من التشدد تجاه الآخر سواء بتكفيره أو التقليل من شأنه، إضافة إلى رغبة الإسلاميين الاستئثار بالسلطات كافة من دون السعي الى تحقيق قدر من التوافق مع التيارات والطوائف المختلفة، وهو ما بدا واضحاً في السلوك السياسي الذي تبنوه بعد حصولهم على غالبية مقاعد البرلمان في مصر. كذلك البرامج التي تبناها المرشحون الإسلاميون إبان حملاتهم الانتخابية، قامت على دغدغة المشاعر الدينية في سبيل الحصول على أصوات القطاع المتدين من المجتمع، والذي يمثل القطاع الأكبر من الشارع العربي عموماً. لم يتوقف التحول الذي شهده الشارع المسيحي على موقفه من فكرة التغيير، في ظل صعود تيار الإسلام السياسي إلى سدة السلطة في العديد من البلدان العربية، وإنما امتد كذلك إلى موقفه من فكرة الحماية، والتي كان ينظر إليها قطاع كبير من المسيحيين باعتبارها مسؤولية أميركية، بل كانوا يرونها أيضاً ربما وسيلة للضغط على الأنظمة الحاكمة بخاصة أن الولاياتالمتحدة كثيراً ما تشدقت بحماية الأقليات الدينية، وهو ربما ما دفع بعض الأقباط المصريين الى التظاهر أمام السفارة الأميركية في القاهرة طلباً للحماية في أعقاب الأحداث الطائفية التي تلت الثورة المصرية. لعل الموقف الأميركي الداعم لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وكذلك للمعارضة في سورية والتي يقودها تيار الإسلام السياسي كان سبباً رئيسياً في تغيير الرؤية التي تبناها العديد من مسيحيي الشرق في هذا الصدد، إذ إن تلك المواقف تعد دليلاً دامغاً أن المصلحة الأميركية فقط هي المحرك الرئيسي للسياسات التي تتبناها الولاياتالمتحدة بعيداً من تلك المبادئ التي تتشدق بها والتي تستخدم فقط كذريعة من أجل الضغط على الأنظمة الحاكمة لتحقيق مصالحها وأهدافها، وربما جاءت لتثبت الرؤية البعيدة الصائبة التي كان يتبناها بطريرك الأقباط الراحل، الذي كان دائماً ما يرفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية المصرية أو ما يمكننا تسميته تدويل القضية القبطية، على رغم ما كان يتعرض إليه من انتقادات من جانب الأقباط سواء في الداخل أو في المهجر. في الواقع أن المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط تحولوا نحو دعم الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تحكم بلادهم لعقود طويلة من الزمان، لأنهم يرون أن القادم، في ظل المتغيرات الجديدة، سيكون أسوأ بكثير، إلا أن الخيارات أمامهم صارت محدودة للغاية، فلم يعد هناك بديل آخر سوى المشاركة بفاعلية على الساحة السياسية والمجتمعية خلال المرحلة المقبلة، حتى يتمكنوا من أداء واجباتهم الوطنية وكذلك الحصول على حقوقهم كاملة كمواطنين كاملين بحيث لا يمكن لأحد أن ينتقص من تلك الحقوق المكفولة لكل من يتمتع بحق المواطنة. * كاتب مصري