أثبت التيار الإسلامي التركي قدرة هائلة على التجدد بالتوافق مع الروح التركية الحديثة، عندما تجاوز كلياً «المنهج» الثوري العنيف لخليل فاضل وجبهة الشرق الأعظم والذي ساد عملية الإحياء الإسلامي في الستينات. وعندما عدَّل كثيراً في التوجه الإنكفائي لأربكان الذي أراد استقلالاً حضارياً لتركيا عن الغرب، والذي هيمن على تلك العملية في الثمانينات والتسعينات. وعندما وصل مع العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان إلى التصالح صراحة مع علمانية معتدلة، هي العلمانية السياسية المتجذرة في التقليد الأوروبي، والقائمة على مجرد الفصل بين الدين والمجال العام، وليس على محاربة الدين في المجال العام كما أرادت الصيغة الأتاتوركية التي مثلت في الحقيقة نوعاً من «الأصولية العلمانية»، وإلى درجة تدفع بعض المتشددين إلى اتهام أردوغان ب «التواطؤ مع العلمانية»، والتشكيك في «ضميره» الإسلامي، ما يعنى أن الإسلام التركي بلغ حده الأقصى من النجاح، مع قدرته القصوى على التكيف. والسؤال هنا هل يشبه تاريخ الإخوان المسلمين تاريخ العدالة والتنمية؟ تبدو الإجابة الأقرب إلى الموضوعية هي «لا»، فالإخوان المسلمون جماعة ولدت (عام 1928) في بيئة غير معادية للإسلام من الأصل، نحا مسارها إلى التشدد لا الإعتدال، كما تبدى في حركة اغتيالات متبادلة شاركت فيها الجماعة طيلة أربعينات القرن العشرين، حتى طاولت مؤسسها نفسه. وبعد ثورة يوليو، وضمن سياق ملتبس اتهمت الجماعة بمحاولة اغتيال قائدها فكانت موجة اضطهاد نالت من المنتسبين إليها، ودفعت ببعضهم إلى المزيد من التشدد واعتناق الفكر التفكيرى في السبعينات، وصولاً إلى اغتيال الرئيس أنور السادات أول الثمانينات، وهو الحادث الذي أدى إلى حظرها قانونياً، وقمعها أمنياً طيلة ثلاثين عاماً تلت، وإن كان هذا القمع قد توقف دوماً عند خطوط معينة لم يتجاوزها، على نحو سمح لها بممارسة دور سياسي ما، ودخول برلمانات عدة، بالمشاركة في تحالفات عدة مع الوفد (1984)، والعمل (1987)، والفوز بنحو 20 في المئة من مقاعد برلمان 2005. وهكذا نجد الخبرة الإخوانية مترددة في توجهاتها بين الإعتدال والعنف، على العكس من الخبرة التركية المتنامية في اعتدالها. فإذا ما حاولنا مقاربة موقف الإخوان الآن بمراحل الإحياء التركي، فربما قاربناها بمرحلة الرفاه، الذي فاز ب 20 في المئة من مقاعد برلمان 1996. وعلى رغم حصول «الحرية والعدالة» في الانتخابات البرلمانية السابقة (2011) على النسبة ذاتها التي حصل عليها «العدالة والتنمية» في انتخابات 2002 (40 في المئة)، فإن هذا التشابه على صعيد التمثيل العددي والطاقة الانتخابية، لا يعكس تشابهاً موازياً على صعيد التمثُل القيمي، والتكوين السياسي، فالعدالة والتنمية في تركيا وريث تجربة تحديث عنيفة بلغت حد (التغريب) وإن كانت فاشلة، وقد تعلم من فشل الأتاتوركيين والإسلاميين التقليديين معاً. وفي المقابل لا يملك إخوان مصر خبرات في الحكم تبدو ضرورية لإنضاجهم، كما أنهم لا يملكون هامشاً كبيراً أو حتى واضحاً للمناورة يبرر مجرد وصفهم ب (الإخوان المسلمين)، ففي تركيا وحيث الأتاتوركية تمثل أصولية علمانية، يمكن بروز علمانية معتدلة تتوافق مع الإسلام على نحو يوفر لها مجالاً للعمل والإضافة والتجديد، بل يبرر وجودها من الأصل. أما في مصر حيث الدولة مدنية حقاً منذ قرنين، ترتكز إلى علمانية معتدلة توقر الإسلام وتحترم الأديان، فمن الصعب إضافة جديد يذكر من داخل فضاء الدولة المدنية نفسه، ومن المتعذر وجود هامش واسع للتجديد، فيما تؤدي المحاولات المصطنعة لصوغ ذلك الفضاء أو توسيع ذلك الهامش باسم الإسلام إلى القضم من جوهر الدولة المدنية، والنحر في عضد القيم الديموقراطية. هنا يواجه «الإخوان» مأزقاً حقيقياً لا يمكن الخروج منه إلا بطريق واحد قويم، فيما البديل زائف وغامض. أما الطريق الصحيح فهو الإعتراف الشجاع بأن ما كانته مصر عبر قرنين هو الدولة المدنية الحق التي نرجوها، وإن شوهتها بثور عسكرة وشمولية يجب استئصالها، ما يجعل دورهم المنتظر مجرد الإبحار عميقاً في بنى الديموقراطية، والاحترام العميق لقيمها ومفاهيمها، من دون بذل جهد ضائع لتمييز أنفسهم عمن سواهم من قوى مدنية أو ليبرالية. وهكذا سيكتشفون أنهم ليسوا أكثر من جماعة أو حزب سياسي وطني، مجرد إخوان مصريين. وأما البديل لهذا الطريق فهو الإبحار عميقاً في رحلة عبثية من اللف والدوران والغموض، يسودها جدل بيزنطي حول علاقة الهوية بالحداثة، والديموقراطية بالإسلام، والحرية بالإيمان، على نحو ما تجسده مقولة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، والتي لا تعدو أن تكون عرضاً لهذا الغموض الملتبس، الناجم عن محاولة اصطناع خصوصية سياسية غير قائمة في الحقيقة، وسمواً أخلاقياً غير قائم في الواقع، ولا حاجة إخوانية لهما سوى المزايدة على القوى المدنية الأخرى، حشداً للمصوتين، ونفاقاً للمريدين. * كاتب مصري