تتسع الهوة بين سورية في المخيّلة وسورية التي على الأرض. فمنهم من يختزلها ب «الشام» وما تثيره من تداعيات التاريخ و «قاسيون» وما تعنيه من عروبة مُقاومة، و «عرين الأسد» وما تعنيه من نظام أبوي طوطمي. ومنهم مَن يُسقط عليها أمانيه مثل «الدولة العربية العلمانية الوحيدة» أو «المناهضة الوحيدة للمشاريع الأمريكو صهيونية»! إسقاط للحنين الفجّ على دولة وفق المقاسات العقائدية والإيديولوجية وتطلّع إلى دولة مثالية. وجهان لتعامل قطاعات واسعة من العُرب مع المسألة السورية. وكلها بلغة سوسيولوجيا الدولة الإقليمية الخارجة للتو من أتون الاستعمار والحكم العثماني الذي دام نحو أربعة قرون. سوسيولوجيا مشتركة للأيديولوجيات ذات الجذور الماركسية أو الدينية أو الليبرالية أو القومية. كلها تتحدث عن سورية من خلال حنينها إلى شيء لم يكن وأمانيها حيال شيء لن يكون، متشابهة علماً أن سورية منذ الاستقلال لم تكن هذا ولم تستطع أن تقترب من ذاك، اللهم إلا في معيار احتكار السيادة والعنف كأبرز مقومات الدولة الحديثة. توقفت سورية هناك ولم تتقدم خطى تُذكر. والمشهد المرتسم الآن في ربوعها حجتنا الدامغة. لقد كشف تحرك الشعب السوري كذبة الدولة السورية و «عروبتها» التي لا يرقى إليها شك و «علمانيتها الوحيدة» و «ممانعة النظام». إلا إن الأمور تجاوزت هذا الحد من كشف بؤس الدولة السورية ودمويتها إلى مرحلة بدأت تتكشف فيها ملامح تطهير عرقي استعداداً لتقسيم البلد إلى ثلاثة كيانات. فقد التقط الأكراد في الشمال الإشارات و «حرّروا» مدنهم من مبعوثي النظام السوري المتضعضع. وهم الذين عانوا الأمرّين عبر عقود من «عروبة» نظام دمشق و «ممانعته». أما النظام المحشور في زاويته فيحاول جاهداً ترتيب أمره في المنطقة التي قد تشكّل جغرافيا الكيان العلوي. وبينما قام الأكراد بحركتهم استناداً إلى ضعفهم وضحويتهم يُقدم النظام على حركته مدججاً بكل أسلحة الدمار والتقتيل ومن خلال تطهير عرقي في محيط البلدات العلوية. ومن هنا يُمكننا أن نفهم كثافة حربه وتدميره في مناطق وعزوفه التام عن الوصول إلى أخرى، هول الدمار في أحياء من حمص وسلامة أحياء أخرى منها. خريطة معاركه تتطابق الآن مع خريطة كيانه العلوي المأمول المتخيّل. هذا، فيما سينعم السنّة في سورية بما تبقى من أرض مع إمكانية نشوء نزعات جديدة لدى الدروز في جبلهم تستهدف ضمان مصالحهم وتحسين مواقعهم. ما سقناه ليس سيناريو ممكناً بقدر ما هو التطور الحاصل على الأرض في الأسابيع الأخيرة. فهو يشكل مخرجاً «مُريحاً» لكل الأطراف بخاصة للجهات المعنية من خارج سورية. ولكل منها حساباتها التي يضمنها مثل هذا التطور. وهو، أيضاً، محصلة لتوازن القوى الحالي على الأرض داخل سورية. وهو أيضاً تحرك «طبيعي» للأطراف كلها لإعادة تموضعها في الجغرافيا السورية في الزمن الآتي. بمعنى إنه استعداد للمرحلة المقبلة التي تلي سقوط الدولة وسيادتها بشكله الذي عهدناه. ما يحصل على الأرض تغيير جذري لنظام سيادي ورثته المنطقة عن اتفاقية سايكس بيكو. وللمفارقة نقول إنه على رغم النقد العربي المكثف من مختلف المذاهب لهذه الاتفاقية على مدار عقود منذ إعلانها إلا أن جميع العرب بمن فيهم المنتقدون حرصوا على بقاء تطبيقات الاتفاقية بحذافيرها ودافعوا عن «النظام» الذي أرسته ولم يجرؤ أحد على تغييره! وللمفارقة أيضاً، أن الأصوات ذاتها أو الجيل الثاني والثالث منها تطلق أصوات النفير من إمكانية تفكك سورية إلى كيانات أصغر، كفك ارتباط مع «نظام» سايكس بيكو وتلك الحدود الاصطناعية التي رسمها بين العراق والسعودية والأردن وسورية وتركيا ولبنان وفلسطين! قد نقول إن ما يحدث في سورية شأن سوري. لكننا يُمكن أن ندرجه ضمن سيرورة عالمية تجسدت في مضاعفة عدد الدول الأعضاء في الأممالمتحدة جراء نشوء كيانات جديدة فرزها تفكك الكيانات التي قامت بقوة اتفاقيات أعقبت الحرب الكونية الثانية وثبتها صراع العقائد وموزاين القوى في فترة الحرب الباردة. وما إن زال تأثير مفاعيل هذه الاتفاقيات بخاصة مع انتهاء «الحرب الباردة» ودخول دوامة العولمة على خط العلوم السياسية ولغتها ومفرداتها حتى تشظت منظومات ودول إلى كيانات عديدة لا تزال تقدم طلبات الانضمام إلى الأممالمتحدة! وتندرج الحالة السورية في هذا الباب من تحول عالمي ذي نزعتين متضادتين متكاملتين، تفكك كيانات سياسية ومنظومات قد تكون اصطناعية إلى كيانات أصغر (الاتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا) ونشوء كيانات كبيرة كالاتحاد الأوروبي المرشح للاتساع. هذه هي الوقائع على الأرض شاء مَن شاء وأبى مَن أبى. والوقائع في حاجة إلى العربي الواقعي للتعامل معها لا للعربي الحالم والمتخيّل والغارق في وهمه وأمانيه. لكن هناك من يُصرّ على ألا يرى فيتحفنا ببكائيات على سورية التي لم تكن وبتفجّع على سورية التي لن تكون. وهي نسق عربي بامتياز يقضي بألا يُرى التاريخ إلا بعد أن يترك لنا رماده ويمضي.