حرية الإنسان هي صورة من وعيه، وبذلك يكون تطور الحرية هو تطور للوعي، ولأن التاريخ ليس محكوماً بالصدفة، وإنما هو محكوم بالعقل، فتستطيع أن تقول إنه وبمرور العقل في التاريخ، فإنه تتحقق في كل مرحلة وفي كل حقبة درجة من حضور العقل، ولكن هل تتحقق على مستوى الحضور نفسه درجة من التطور العقلي؟! مجرد تناقضات عقلية هنا وهناك، فمكان يحكمه التأخر العقلي، ومكان يسوده التقدم العقلي وهكذا، والسؤال: كيف إذاً يتقدم التاريخ في الوجود؟ ولا تتوقعون أن كاتبة السطور تملك الإجابة، ولكنها محاولات للتفكير على أية حال، فمنذ الثورة الفرنسية عام 1789، والإنسان ينتقل من الاعتماد على السائد كما هو، إلى تنظيم واقعه وفقاً لمتطلبات تفكيره العقلي، فالإنسان بطبيعته موجود مفكر. الإشكالية التي وقعنا فيها أن كل تفكيرنا محصور في السلطة والتسلّط، حتى الديموقراطية التي تغنّينا بها حوّلناها إلى آلية للوصول إلى الحكم وليس إلى آلية للحكم، ولم يهدنا عقلنا إلا إلى تحويل الفرص إلى مشكلات، تتضخم بدورها فتنتقل إلى خانة الأزمات، فمن فرصة إلى مشكلة إلى أزمة إلى حل الأزمة بمزيد من الفرص التي تتحول إلى مشكلات ومنها إلى أزمات، فكيف يُفهم تاريخنا تحديداً بهذه الصورة؟ دوائر متشابكة، تتداخل معها دوائر أخرى جديدة فتزيد من تشابكها، وكان الأَولى أن يُفهم التاريخ عن طريق إدراك الأسباب التي من أجلها حدث بهذه الصورة، على الأقل حتى يضمن العقل أن يتقدم عليها في المرة المقبلة فلا يقع في الأخطاء ذاتها، ولكن هذا لا يحدث، ولا يتغلغل العقل في حياتنا إلا بمقدار ما يزيدها تعقيداً، فماذا يعني أن تقوم ثورة في ظل فراغ فكري اقتصادي سياسي حتى على مستوى النخبة؟ يعني أن القادم الجديد سينتج البضاعة القديمة نفسها، إن لم يكن في أول القدوم ففي مرحلة تالية. بتقديري كي تكسر سلسلة تاريخنا الرتيب فلا بد أن تدخل على هذه السلسلة حلقة من تطور الروح، فتكون غاية المسار هي وعي للعقل والروح معاً، ويكون مسار التاريخ هو تحقيق لهذا الأمر بأفضل أشكاله وأكملها، وللأسف نحن في عالمنا العربي لا نعير الروح انتباهاً ولا اهتماماً، فكل همنا محصور في النفس كيف نرضيها ونغذيها بشهواتها، أمّا الروح فاكتفينا أنها من أمر ربي فلم نحاول معها محاولاتنا مع النفس، مع أنها فينا ومنّا، واعتلالها اعتلالنا، وها هو الإنسان يصل إلى غاياته ولا يزال على حاله «المخنوقة»؟ فالمسألة ليست عقلاً فقط وليست نفساً فقط، وإنما بالروح والعقل، ولكننا التفتنا إلى العقل بنصف عقولنا وأحياناً بربعها وربما أقل، وأهملنا أرواحنا، عموماً حتى هذا الكلام لن يستوعبه الكثير، فاغتراب الروح قد تمكّن فينا داؤه حتى استفحل ولم يعد غريباً فيلاحظ، «فعن ماذا تتحدث؟» أكاد أجزم أنه تعليق أغلب من سيقرأ المقالة. قبل أن تبحث عن الخارج، ابحث عما هو داخلك، ولا تؤجل، فالتأجيل حيلة دقيقة دائماً ما يلعبها العقل معنا، فلا تطعه، وكن واعياً، متنبهاً، فإن تيقّظت أعداد كبيرة منّا فمعناه أننا سنحقق قفزة، وربما مفاجئة، لأن الوعي بماهية الأشياء يكون قد تبدّل، يكون أعمق، ومن هذا العمق سيُخلق مناخ مختلف، وأرضية وسياق جوهري مختلف أيضاً، يمكن للمرء أن ينهض معه، ولقد جُرّبت على مدى قرون وعصور، بأنه لو وجد في قرية ما شخص من ألف شخص وكان واعياً حقيقياً، فإن الصفة العامة لبقية أهل القرية تتغير، وتكون غير بقية القرى، فمع كل روح متيقظة ترتقي البشرية خطوة إلى الأعلى، فالمسألة ليست في إعلاء العقل وحده، وستظل الروح من أمر ربي، إنما علينا أن نجتهد في هذا الأمر الرباني، فالعقل وجد لوزن الأمور لا لتعطيلها، وليس كل شيء يقيسه العقل، لذلك هي الروح من أمر ربي، فإلى مقالة قادمة بعد أسبوعين من اليوم. [email protected]