تشابك الجسدان في عراك ضارٍ، كما لو أنهما التحما بصمغٍ قوي إلى الأبد. ولم يستطع الجمهور المتحلّق حول الشابين أن يفصلهما عن بعض. كانا يلوحان بالسكين الحادة المعروفة ب «الشبرية» التي يحملها كل منهما. والمفارقة الغريبة أنهما كانا يلبسان بنطال جينز ماركة لورد، وينتعلان حذاء رياضياً ماركة أديداس... وكان لهما القامة الرشيقة ذاتها والطول نفسه، والعمر الذي يقترب من السادسة عشرة. كانا يطلقان أصواتاً كالجعير، مع إمكان تمييز بعض الشتائم الفاحشة والتهديدات التي يتبادلانها. كل من حاول الاقتراب من المتعاركين كان يصاب بركلة قوية. سالت الدماء غزيرة من الجسدين، وسقطا أرضاً. كلّ منهما يطعن الآخر بمديته، إلى أن تمكن الشرطي الذي استدعاه الناس من إجبارهما على الانفصال واحدهما عن الآخر مطلقاً الرصاص من مسدسه... انفصلا وهما يلهثان. حاولا الوقوف، فعجزا. ترنحا ثم سقطا مجدداً وسط بركة دمائهما، كان وجهاهما محتقنين وعيونهما رطبة... بركة الدماء على الأرض كانت تكبر، وما هي إلا لحظات حتى حضرت سيارة الإسعاف، ونقل الشابان على حمالتين متجاورتين إلى المستشفى. وُضعا على سريرين متجاورين في قسم الإسعاف بعدما قُيد كاحل كل منهما بسلسلة حديد إلى السرير، وتحلقت حولهما مجموعة من الممرضات والأطباء المسعفين... وبين الجريحين وقف الطبيب الشرعي يسأل عن حالة كل منهما، ومدى الأذيّة التي ألحقها الواحد بالآخر... الطبيب المسعف أكّد أن حسان مصاب بطعنة سكين حادة في صدره أدت إلى انخماص رئته، وأنه مصاب بطعنة في فخده تسببت في انقطاع شريان رئيسي ونزف غزير. أما الشاب أياد فطعنه صديقه في عينه مباشرة، ما أدى إلى اقتلاعها، وجرى سائلها على خده. وأصيب أيضاً بطعنة في أسفل ظهره، تسببت له على الأرجح بشلل نصفي لأن منعكساته شبه معدومة. نقلا في الوقت ذاته إلى قسم الجراحة، بدوَا هامدين تماماً، يعانيان انحطاطاً بدنياً شديداً، وكانا يبكيان بصمت من الألم والخزي والذهول، ويشعران بالذعر من الإعاقة التي تنتظرهما. أدخل كل منهما إلى غرفة الجراحة، ولم يفهما لماذا ارتجف قلبهما في الوقت نفسه، واستدار كل منهما ليرمق الآخر المُسجى على الحمالة ليخمن إصابته والأذى الذي لحق به... في اللحظة ذاتها كانا يتنشقان البنج المخدّر الذي بدأ يُغيبّهما عن الواقع... حين أغمض حسان عينيه رأى والده يقترب منه، ببذلته العسكرية والبندقية المعلقة بكتفه، كان والده حزيناً ويتأمل ابنه بأسى. في نظرته عتب وشفقة وحب كبير. لماذا يا بني؟ لماذا طعنت زميلك بالسكين؟ هل نسيت أنه صديق طفولتك، وأنك طالما لعبت معه في الحارة بالكرة؟ هل نسيت كيف كنتما تذهبان معاً إلى امتحان الشهادة الإعدادية؟ كيف تطعن زميلك وصديقك يا بني؟ ينتفض حسان ويرتمي في حضن والده. أبي أبي، كم اشتقت إليك، ولكن، ولكن، يا أبي كيف خرجت من الصورة، أقصد من النعوة. كان حسان يبكي على صدر والده الشهيد، الذي استشهد في بابا عمرو، وليس في فلسطين ولا في الجولان... والده الذي تحوّل إلى ورقة نعي كتب فيها اسمه الشهيد البطل... ياه يا أبي كم اشتقت إليك! سنة كاملة مرّت وأنت بعيد بعيد... قل لي يا أبي لماذا استشهدت؟ من هم الأعداء الذين كنتَ تحاربهم؟! كيف تتركنا يا أبي، كيف؟ لو تعرف كم يؤلمنا غيابك، آه يا أبي، تهدمت حياتنا وتهدمت أرواحنا. لا يهمني أن يكون أبي شهيداً. أنا أريدك معي، أريدك معي... يمسح الشهيد رأس ابنه براحة من حنان ويقول له: يا بني، أنا حزين جداً عليك. ما الذي جرى لك حتى تحمل السكين وتطعن زميلك وهو بدوره يطعنك؟! لا أكاد أصدق يا حسان! كيف صرت عنيفاً يا حبيبي؟ كنت دائماً رقيقاً، لطيفاً... أتذكر حين أخذتك معي في رحلة صيد العصافير، كيف عدت متورم العينين من البكاء وأنت تقول كيف تقتلون تلك المخلوقات الصغيرة الجميلة، دعوها تطير وتزقزق سعيدة في السماء... كيف أصبحت عنيفاً يا حسان؟... آه يا أبي، لم أعد أنا نفسي. منذ وفاتك، تحوّلت حياتي إلى مأساة. ما معنى أن تتحول من أب هو عصب حياتنا ومصدر توازننا وفرحنا وإيماننا بالمستقبل إلى صورة معلقة على جدار، وإلى ورقة نعي! هل تعرف أنني لم أعد حسان الذي تعرفه، شاباً سعيداً متفائلاً لديه طموحات وأحلام، بل صرتُ ابن الشهيد... لو تعرف الغضب الذي ينهش روحي يا أبي منذ استشهادك... والسافل أياد الذي... تلعثم كما لو أن صوته انكسر فجأة فصمت... قال الأب الشهيد: ما به أياد، لماذا تقول عنه سافل؟... أحَس بوخزة ألم مفاجئة في صدره وأخذ يحاول أن يغب الهواء. لم يكن يعرف معنى انخماص الرئة، لكن الطبيب حاول أن يبسط له الإصابة قائلاً: الرئة مثل البالون المنفوخ بالهواء، وطعنة السكين أدت لثقب الرئة كما ينثقب البالون، فانخمصت. تجاهل طعنة الألم وقال: تصور يا أبي تلك المفارقة، في اليوم الذي استشهدت فيه مات والد أياد، لكنه مات في المعتقل. يُقال إنه كان يخرج في تظاهرات مضادة للنظام، وبعضهم يقول إنه اعتقل وهو يخرج من الجامع، وبعد أسبوع من اعتقاله أتاهم نبأ وفاته، ولم يتسلموا جثته، ولكن سرت إشاعة قوية في الحارة أن والد أياد كان في بابا عمرو وأنه انتسب إلى الجيش الحر... لم نعد قادرين أن ننظر بعضنا في عيون بعض يا أبي، كانت تعليقات زملائنا في المدرسة تشحننا بشحنات الكره والغضب، حتى أن أحد رفاقنا قال ذات مرة، قد يكون والد حسان ووالد أياد اشتبكا في معركة في بابا عمرو، وقتل كل منهما الآخر... تصوّر يا أبي بأن هذا الافتراض لاقى قبولاً بل استحساناً لدى معظم زملائنا في المدرسة حتى وجدتُ نفسي أنخرط في شجارات كلامية مع أياد حولكما، أقصد حول والدينا الميتين، وكأنّ كلاً منا يريد أن يثبت للآخر أن والده أكثر شرفاً وشجاعة من والد الآخر... كنت أصرخ متباهياً فيما قلبي ينزف: أنا أبي استشهد في سبيل الوطن، أنا ابن أنبل إنسان على الأرض، أنا ابن الشهيد. فيهزأ بي أياد ويقول: وأنا أبي مجاهد، رجل شجاع يطمح إلى الحرية والعدالة والديموقراطية... فأقول له مشحوناً بأقوال الكثير من زملائي: والدك إرهابي... فيرد وقد جحظت عيناه من الكره: والدك شهيد زائف لأنه يقتل أبناء وطنه، والدك قتل أبي... أحس والد حسان أنه استشهد حقاً في تلك اللحظة، اختنق صوته في حنجرته وعجز عن الكلام... وآخر ما تناهى إلى سمع حسان صوت هامس: التخدير عميق الآن يمكنكم البدء بالعملية. في الغرفة المقابلة، كان أياد يبكي بعين «وحيدة» على عينه الأخرى المفقوءة بطعنة السكين ولم ينتبه إلى أنه بال في ثيابه... كان أياد يبكي بعين واحدة كطفل وهو يسأل الطبيب الجراح: دكتور هل خسرتُ عيني هل خسرتها؟ يربت الطبيب على كتفه ويقول له: لا أخفيك الإصابة خطيرة، ولكن سأعمل جهدي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه... أحس أياد بيد دافئة تمسح السائل اللزج المتدفق من عينه المتأذية، ارتعش جسده وصرخ أبي، أبي... اقترب الرجل الذي ابتلعته بابا عمرو من ابنه، وانحنى وقبّل رأس أياد وقال: يا روح روحي، ماذا فعلت بنفسك؟! صرخ أياد: أبي، أبي كم اشتقت إليك، لماذا تركتنا يا أبي لماذا؟ رد الأب: هذا قدري يا بني، أردت أن تعيشوا - إخوتك وأنت - حياة أفضل من حياتي، أردت لكم العيش بكرامة وحرية وعدالة وعزة نفس. بكى أياد بحرقة من عينه السليمة وقال: لا نريد، لا نريد أية حياة بعيداً عنك... آه يا أبي لن يلتئم جرحنا بغيابك يا أبي، أختي وفاء، وفاء التي كنت تدللها أكثر منا جميعاً أتعرف ما أصابها، تصور لم تبك عليك، لكنها تظل نائمة، وما عادت تتكلم، كل وقتها تقضيه في فراشها حتى أنني ضربتها ذات يوم ونزعت عنها غطاء السرير، فصرخت: أعد لي كفني... إنها تريد أن تموت لتكون قريبة منك يا أبي... - ولكن يا حبيبي، لا أريدكم أن تنهاروا لأنني مت، منذ متى وأنت تحمل سلاحاً؟ سكيناً يا أياد؟ وتطعن بها صديق طفولتك... - لم يعد صديقي يا أبي، لأنه يعتبرك إرهابياً ويتباهى أمامي بأن والده شهيد و... يقاطعه والده وصوته غارق في الحزن والهزيمة: لا يا حبيبي، لا يا أياد، لا تتنكر لأصدقاء طفولتك، أنسيت كم كان يحبك حسان، فيتذكر عيد ميلادك قبل موعده بأيام، ويحضر لك مفاجآت ويقدم لك أحلى هدية! أنسيت كم كان يتحمس ليساعدك في حل مسائل الرياضيات، فتصرخ به لا تتعب نفسك أنا لا أطيق الرياضيات. يا أياد ماذا فعلت بصديقك؟ كيف كيف يؤذي واحدكما الآخر بتلك الطريقة... بكى أياد: يا أبي أنتَ لست إرهابياً، ووالده ليس شهيداً يتباهى به وبأنه أشرف منك، والده قتلك، والده مجرم، والده لم يقتل جندياً إسرائيلياً بل قتلك... يرتعش صوت الأب: لا يا حبيبي أرجوك لا تفكر بهذه الطريقة، أنا لا أعرف من قتلني وهو لا يعرف من قتله... يصمت للحظات، اسمع كلانا يعرف من القاتل الحقيقي ولكن ألا ترى أننا صديقان، كلانا مات... كلانا خسره أولاده وأسرته وحياته...أنا وهو ميتان يا أياد... أبي، أبي، سأقول لك شيئاً... انطفأ صوت أياد وبدأ الطبيب الجراح في رفء عينه الممزقة... في رواق جناح العمليات المضاء بنور أزرق شاحب... التقى شبحان محنيا الظهر، والد أياد ووالد حسان... كانا مهزومين، مهدمي الروح... توقف الشهيد ونظر إلى الشهيد الآخر، كانا والدين خاسرين، وشابين قصف عمرهما رغماً عنهما. كانت نظراتهما المتبادلة تعكس ذهولاً لا متناهياً، ذهولاً يفوق بما لا يقاس أقسى درجات الألم.