ليس أمن الحدود اللبنانية شمالاً وشرقاً مسألة تقنية بحتة. قبل انفجار الوضع السوري، كان أمن الحدود مطروحاً من باب الترسيم او التحديد، وشُكلت على مدى سنوات طويلة لجان مشتركة بين البلدين بهدف إنهاء مشكلة عمرها من عمر استقلال البلدين، ولم تنجِز هذه اللجان عملها قبل الحرب اللبنانية، التي استباحت دمشق بسببها ومن اجلها الحدود على مدى نحو ثلاثين عاماً. الانفجار السوري هو ما أعاد طرح المشكلة، ليس لأنها مزمنة وتحتاج حلاًّ، وإنما بوصفها جزءاً من «حزمة ضريبية» على لبنان تحمُّلها الى جانب النظام السوري في معركته الداخلية المصيرية. من هنا، طغى الجانب الامني السياسي على السلوك الرسمي السوري، الذي انخرط في محاولة تصوير لبنان وكأنه مقر للإرهاب الذي يستهدف سورية من جهة، ولبنان نفسه من جهة ثانية. لم ينظر الجانب السوري الى ان له في لبنان حكومة موالية ساهم -والبعض يقول جاء- بها على انقاض حكومة وفاق وطني مزعوم، بل ذهب بعيداً في التعامل مع اللبنانيين كفرق وطوائف ومناطق، تماماً كما اعتاد خلال سنوات حكمه المديد لبلاد الارز، التي اتهمها بالتحول مأوى للإرهاب والإرهابيين بسبب استقبالها آلاف النازحين السوريين، وقدم مادة لحلفائه اللبنانيين سيستثمرونها في معركتهم الداخلية ضد الارهاب السلفي الذي يهدد صفاء عيش الاقليات... التي يجيد النظام العلماني في دمشق «حمايتها». رواية تحول عرسال على الحدود الشرقية مقراً ل «القاعدة» كانت البداية. ولأنها بلدة سنية، كان طرح اسمها ضرورياً لإثارة مناخات داخلية تخيف المسيحي والشيعي والدرزي من أصولية سنية داهمة يحميها «تيار المستقبل». وسرعان ما انتقل التركيز الى الحدود الشمالية بقرار سوري ومواكبة نشيطة من الحلفاء اللبنانيين. بات العنوان عكار، المنطقة التي صُورت بإلحاح وكأنها قندهار لبنان التي ستوفر عمقاً آمناً للجيش السوري الحر و «العصابات الارهابية»، بتغطية من تيار المستقبل نفسه... كان الرئيس السوري بشار الاسد وعد في أحاديث نسبتها اليه احدى الصحف الكويتية قبل اشهر قليلة، أن التغيير في لبنان سيتزامن مع تغييرات تجري في سورية ابتداء من حزيران (يونيو) الماضي. وفي ايار (مايو) أجريت انتخابات مجلس الشعب الشهيرة في سورية، وبقي السؤال عن التغيير المنتظر في لبنان. لم يطل الأمر كثيراً حتى هطلت المشاكل على شمال لبنان. تحريك مفاجئ ل «سلفيي السلطة» تُوِّج بتوقيف الممسك ب «شيفرة القاعدة» ثم إطلاقه، ليتبين انه ممسك بشيفرة معتقليه، وفي الاثناء تتحرك جبهة باب التبانة–جبل محسن في تمهيد للحبكة الاقوى: زج الجيش في مواجهة مع أهله وخزانه البشري في عكار. هل كان المقصود بالتغيير في لبنان شل الدولة عبر شل جيشها في الشمال؟ ام دفع الوضع اللبناني بكامله نحو انفجار شامل؟ اوحت المطالعة التي قدمها بشار الجعفري الى مجلس الامن، أن لبنان كله متهم بتخريب الوضع السوري الداخلي. لم يتقدم المندوب السوري بمطالعة مماثلة عن تركيا، التي تحتضن علناً المجلس الوطني السوري والجيش الحر، والتي لم تعتمد سياسة النأي بالنفس عن الانتفاضة في سورية، كما انه لم يتحدث عن الاردن، الذي يستضيف مئات العسكريين المنشقين وعشرات ألوف النازحين السوريين، والذي يعلن شبان متعاطفون من ابنائه عزمَهم القتال ضد النظام في سورية... بدا لبنان وكأنه لم يتغير في العقل السياسي الامني الرسمي السوري، إنه ساحة استعمال لا بلداً جاراً مستقلاًّ، وهو مستضعف لأن اطرافاً فيه اعتادوا تقديم الخدمات لنظام دمشق من موقع الملتحق الذي يظن نفسه حليفاً. لم يأخذ الجانب السوري بعين الاعتبار حكومة «حليفة» في بيروت، فأعاد العمل بروزنامة السبعينات والثمانينات اللبنانية. فشل مشروع ضرب الدولة في عكار عبر زج الجيش في مواجهة مع شعبه، بسبب وعي شعبي عميق لخطورة ما يجري وبسبب مسارعة قيادة التيار الشعبي الاقوى في طرابلس وعكار، ممثلة برئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الى التهدئة والطلب الى السكان الهدوء والاحتكام الى العقل والعدالة. إلا أن فصلاً آخر بدا أنه جُهِّز على عجل لتعويض الفشل في الشمال. تم اختطاف لبنانيين من الطائفة الشيعية في سورية في ظروف لم تتضح أسرارها حتى اللحظة، فاندلعت حرائق في بيروت هددت بإشعال مواجهة مذهبية واسعة لو لم يتدارك الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس مجلس النواب رئيس حركة امل نبيه بري الموقف، ويسحبا المحتجين من الشوارع ليلاقيا في موقفهما العقلاء في كل الاوساط الرسمية والشعبية. رسمت احداث الاسابيع الاخيرة الحدود الداخلية للصراع رغم احتدام الازمة في سورية. وفي معزل عن مواقف الأطراف مما يجري في البلد الشقيق، بدا هؤلاء محكومين بالحدود التي يتيحها اتفاق الطائف والدستور للخلاف، فلا مشروع سياسياً لدى أي كان يستحق تفجيراً من أجله، ولن يكون الانفجار الداخلي في حال حصوله الا خدمة مجانية للنظام في سورية، نتيجتها الوحيدة تدمير لبنان. لقد تهيب القادرون محاولة تغيير المعادلات العامة القائمة، فحلت إستراتيجية الترهيب عبر محاولات الاغتيال بديلاً، بهدف شل الحياة السياسية الطبيعية، بما يبقي لبنان رهينة الاحتمالات التي ترتبط جميعها بمآلات الاوضاع السورية. ترسيم الحدود الداخلية للخلاف هو الاكثر اهمية في هذه المرحلة، فهو الضمانة الفعلية لمنع امتداد تفاعلات الحدث السوري عبر الحدود الشماليةوالشرقية، وللاستقرار في الجنوب وكل المناطق اللبنانية. وهذا الترسيم لحدود الخلاف هو الذي يجعل الجيش وقوى الأمن قادرَيْن على القيام بدورهما في ضبط الحياة الطبيعية، ويوفر للقضاء شروط ممارسة مهامه في محاسبة المخلين والمجرمين، خصوصاً المشتبهين في تخطيط الاغتيالات وتنفيذها، ومن دونه يتحول لبنان ساحة مفتوحة لا ينفع معها نشر الجيش على النهر الكبير الجنوبي أو في السلسلة الشرقية. قال الرئيس السوري بشار الاسد في الاجتماع الاول لحكومته الجديدة، إن حرباً تجري في بلاده، وقد اتسعت هذه الحرب وانتقلت الى دمشق، التي شهدت اقسى ضربة يواجهها النظام لدى تفجير اجتماع خلية الازمات. ولنا ان نتوقع اشتداد الصراع الدموي في الايام والاسابيع المقبلة، في دمشق نفسها وفي بعض المناطق المحاذية للحدود اللبنانية الشمالية بين حمص والقصير وتلكلخ ومحيطها، وسيهدد القتال في هذه المناطق، في حال اتساعه، المناطقَ اللبنانية القريبة من مرمى النيران وحياة السكان وممتلكاتهم. سيقوم الجيش اللبناني الذي أُرسل الى هذه المناطق بمهامه في الحفاظ على امن الحدود والسكان، لكن لن نتوهم ان سيكون في مقدوره رد قذائف عشوائية في منطقة قتال شديدة التداخل، فما سيحمي الحدود والجيش والسكان في تلك النواحي ليس حجم الانتشار العسكري اللبناني، بل هدوء المتوترين في بيروت وضواحيها. * صحافي من أسرة «الحياة»