بعد أن تنازل حسني مبارك عن رئاسة جمهورية مصر استجابة لثورة ميدان التحرير، تعالت بعض الأصوات مطالبة بمحاكمته عن الفساد والطغيان الذي ساد في عهده. وفي 28 فبراير (شباط) الماضي أصدر النائب العام المصري قرارا بالتحفظ على جميع أموال الرئيس السابق وزوجته ونجليه علاء وجمال، ومنعهم من مغادرة البلاد. وفي اليوم التالي تجمع عشرات الآلاف من المتظاهرين في ميدان التحرير ونظموا محاكمة رمزية لمبارك، وإن لم يصدروا حكما في النهاية. بعد ذلك قرر النائب العام حبس الرئيس السابق على ذمة التحقيق في قضايا الفساد وقتل المتظاهرين، وظل حسني مبارك في المستشفى نظرا لسوء حالته الصحية. لم يخرج شباب الثورة في 25 يناير (كانون الثاني) بهدف الانتقام من رئيسه، بل لكسر الأغلال التي قيدت حريته حتى يتمكن من الانطلاق لبناء مصر جديدة، مصر حرة ديمقراطية وبناءة. كما لم يهرب مبارك خارج البلاد مثلما فعل الرئيس التونسي بن علي ولم يدخل بلاده في حرب أهلية كما فعل القذافي، بل تنازل عن سلطته لحماية مصر من المخاطر، وقرر قضاء ما تبقى له من العمر على أرضها. والآن بعد أن سقط النظام الشمولي وصار في استطاعة الجماهير أن تختار مستقبلها بحرية، أهذا هو وقت الانتقام والأخذ بالثأر، أم وقت بناء مجتمع الرخاء والحرية، وهل يليق بشعب مصر أن يحاكم رئيسه جنائيا ويلقي به خلف قضبان السجون؟! فمصر بلد عظيم وشعب مصر شعب له تاريخ يمتد إلى فجر الحضارة البشرية، التي ولدت من رحم وادي النيل منذ أكثر من خمسة آلاف عام مضت. ورغم تخلف مصر عن ركب الحضارة عند نهاية عصر الفراعين، عادت البلاد لتمسك بزمام أمورها منذ مجيء محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، حيث أصبح حكم الباشا نقطة تحول جوهري في تاريخ المصريين، وبداية لبناء الدولة المصرية الحديثة. فقد تمكن محمد علي من القضاء على طبقة البكوات المماليك التي كانت تسيطر على مقاليد الحكم في البلاد، وقام بتركيز السلطة السياسية في يد حكومته في القاهرة. وفي فترة قصيرة استطاعت مصر أن تنفصل عن الدولة العثمانية وتعود إلى مسيرة الحضارة. ومع أنها تقع في قارة أفريقيا، فقد تأثرت مصر بفكر الثورة الفرنسية والنهضة الأوروبية الحديثة في العلم والإدارة والصناعة، بل وفي الجيش كذلك. ناضل المصريون من أجل الحرية، وقامت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول لاستعادة سيادتها. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ عصر الاستقلال والتحرر الوطني في جميع أنحاء العالم، وفي يناير 1950، فاز حزب الوفد في الانتخابات بأغلبية ساحقة وكلف الملك فاروق زعيمه مصطفى النحاس بتشكيل الحكومة. وازدادت آمال شعب مصر في أن تحقق الحكومة الجديدة مطالبه الرئيسية، التي كانت تتلخص في ثلاث نقاط: جلاء القوات البريطانية، حماية الدستور - بحيث لا يقوم الملك بإقالة الحكومة وحل البرلمان - ورفع مستوى المعيشة. وعندما فشلت المفاوضات في الاتفاق على الجلاء، قامت حكومة الوفد بإلغاء معاهدة 1936 التي سمحت بوجود القوات البريطانية في مصر. ومع بداية عام 1952 بدأت المقاومة الشعبية وحركة الفدائيين ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس بتشجيع الحكومة. وبينما كان الشعب المصري بكل طوائفه وأحزابه صامدا وراء حكومته في المطالبة بجلاء القوات البريطانية، فوجئ الجميع بحرق مدينة القاهرة في 26 يناير وإقالة الحكومة الوطنية، ثم قام تنظيم الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بانقلاب عسكري في 23 يوليو واستولوا على حكم البلاد، وأقاموا نظام الحزب الواحد. وبدلا من محاكة مبارك، علينا محاكمة النظام الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من حكم شمولي فاسد، يقمع الجماهير ولا يعمل لمصلحة الشعب. فنظام الحكم - الذي تمثل في الحزب الوطني - هو الذي أتى بمبارك إلى سدة الرئاسة، وهو الذي زور انتخابات مجلس الشعب وهو الذي اختار الوزراء الفاسدين من بين أعضائه وهو الذي استأجر المرتزقة لقتل المتظاهرين في موقعة الجمل. فقبل يوليو (تموز) 1952 كان في مصر دستور يكفل حق تكوين الأحزاب السياسية دون شروط، وبرلمان يراقب أعمال الحكومة ويسقط الوزراء. عندئذ كان في مصر 12 حزبا سياسيا ألغيت جميعها وحل مكانها تنظيم واحد، تغير اسمه من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي ثم الحزب الوطني. ورغم السماح بتعدد الأحزاب في 1976، ظل الحزب الوطني هو الذي يزور الانتخابات ويختار الوزراء الفاسدين ويضع سياسة الحكومة، ويسيطر على المال والأمن في البلاد. قبل يوليو كانت مصر تتطلع إلى الاستقلال والحرية وتعمل على استكمال المسيرة الحضارية وبناء مجتمع الكفاية والرفاهية، حتى تعود البلاد كما كانت عند بداية التاريخ. فمصر غنية، لديها ثروات كبيرة وإن ظلت معطلة عن العمل والإنتاج. لديها شعب عظيم، عرف الحضارة منذ طفولته وفي استطاعته - لو أتيحت له الفرصة - الوصول إلى قمة النجاح. في استطاعة المصريين بلوغ أعلى مستوى في التعليم والتدريب والتوافق الاجتماعي، فلديهم الأرض الخصبة والثروات المعدنية، لتحقيق النمو الزراعي وغزو الصحراء والتعامل مع أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة. فما الذي حدث في مصر بعد استيلاء الضباط الأحرار على الحكم منذ 59 عاما؟ محاكمة مبارك قد تشفي غليل البعض، ولكنها لن تكشف لنا عن الفاعل الحقيقي للجريمة. ومن الضروري دراسة التاريخ للتعرف على الظروف والأسباب التي أدت بنا إلى الوقوع في كهف الظلام طوال 59 عاما. يجب مصادرة أي أموال حصل عليها الرئيس السابق من دون وجه حق، ولكن إلقاؤه في السجن لما تبقى له من عمر قصير لا يتماشى مع أخلاق شعب مصر العظيم الذي لم يحاسب الملك فاروق على الفساد ولم يحاكم جمال عبد الناصر على تسببه في احتلال إسرائيل لسيناء نقلا عن الشرق الاوسط السعودية