حين صدر بيان المنتجين السوريين بمعاقبة الفنانين الموقعين على ما سمي «بيان الحليب» حول حصار درعا، كتبت مقالاً في «الحياة» للتنبيه إلى خطورة هذه الخطوة التي تحارب المخالفين بالرأي في لقمة عيشهم. ومن وقتها إلى اليوم تغولت اليد الأمنية في حمام لا ينقطع جريان دم ضحاياه فأصبح أهون شرورها قطع الأرزاق. لكن آخر ما كان يخطر في بالي أن تمتد هذه اليد إلى مؤسسات الدولة الثقافية، التي عملنا فيها لسنين طويلة وحظينا فيها بالاحترام لما جلبناه من سمعة للفن السوري، على رغم أن الكل كان يعرف موقفنا من النظام ودعوتنا الدائمة إلى الحرية والديموقراطية. كان يتم التضييق علينا، بالطبع، وكان بعض أعمالنا يُمنع، لكن لم تصل الأمور يوماً إلى الفصل من العمل. وكنا نستمر ونعاود الكرة ونمرر أفلامنا ومسلسلاتنا، وسابقاً بعض المسرحيات، وكان المنع يتم بخفر ويقال دائماً باعتذار: «تعرفون... الشغلة من فوق»، وكنا نتواطأ ونعود الى المحاولة. اليوم، تسفر القبضة الأمنية عن كامل بشاعتها. فحتى مرسوم الفنانين الذي لا يلزم الفنان بدوام، يتم تجاوزه بوقاحة، ويطرد ثلاثة سينمائيين: أسامة محمد، نضال الدبس، نضال حسن وقبلهم شادي أبو الفخر، لعدم التزامهم الدوام لمدة خمسة عشر يوماً. وأعتقد أن هذا مؤشر جنوني جديد لفقدان الرؤية لمستقبل سوريا. أيها السادة، تدعون لحوار وحكومة وحدة وطنية وتطردون الوطنيين والموهوبين ؟! تطردون سينمائيين كرسوا حياتهم للسينما، وأظهروا موهبتهم، رغم الفرص القليلة التي منحتموها لهم، فقط لأنهم أعلنوا وقوفهم مع شعبهم الثائر. بأي منطق تطردون أسامة محمد صاحب الفيلمين الرائعين «نجوم النهار» درة السينما السورية، و «صندوق الدنيا» الذي ارتقت فيه اللغة السينمائية السورية إلى مصاف لم نعتدها في السينما العربية إلا في ما ندر؟! من تجرأ على التوقيع على قرار فصل أسامة محمد الذي حقق لسورية مكانة في المهرجانات العربية والدولية، بينها عرضان مشرّفان في مهرجان كان السينمائي؟! هل يستطيع أي منكم أن يستوعب الدهشة من قراركم العجيب التي اعترت شباب السينما السورية الذين كرّس لهم أسامة محمد كل وقته، لإيمانه بمستقبل السينما التي سيصنعها هؤلاء. ألا تخجلون من كتب السينما التي نشرتموها وأنتم تفخرون بسينما سورية صنعها بالأصل معارضون للنظام منذ السبعينات إلى اليوم؟! ترددون أنكم مع مطالب الشعب العادلة في الديموقراطية، وتفصلون تعسفاً المخالفين بالرأي؟! يا لها من مهزلة... تريدون أن تخيفوا الناس لئلا يعارضون. وبماذا؟ بقروشكم القليلة المسماة تجاوزاً رواتب، والتي قبلها الفنانون لحبهم السينما وبحثهم عن فرصة إنجاز فيلم يحتالون بكل أنواع الحيل الذكية والفنية لتمريره. فأنتم خصيصاً وبدهاء مكشوف، أغلقتم أبواب الإنتاج الأخرى فلم تساعدوا أي محاولة جادة لإيجاد طرق للإنتاج تفتح المجال لإنتاج عشرين فيلماً سورياً في العام بتعاون وثيق مع القطاع الخاص، كما حصل في الدراما التلفزيونية. فعلتم هذا لأنكم كنتم دائماً تريدون أن لا يفلت أي من «المشاغبين» فيصنع كالصديق الراحل عمر أميرالاي نبوءة عظيمة مثل «الطوفان في بلاد البعث». فزدتم التضييق والحصار واختلقتم العداوات لتمنعوا نشوء سينما سورية حقيقية لديها ثلاثة أجيال قادرة على خلق تنوع وتفرد. سينما، حاولنا، عمر وأسامة وأنا، أن نستشرف إمكانية تحققها في العديد من أوراق العمل التي أنجزها حوارٌ نادرٌ أبدعه السينمائيون السوريون، وانتخبونا لمتابعتها، فأمضينا عشرات الجلسات في مناقشتها وصياغتها لإخراج السينما السورية من أزمتها الخانقة، ثم رُميت في الأدراج. اليوم تعلنون الحرب على الرأي الآخر بوجه سافر وقح، ويؤسفني حقاً أنكم قررتم اليوم ما كان أيّ أحد ليستطيع أن يفعله عبر كل سنوات القمع في سورية: قررتم أن تكون الدولة للموالين للسلطة. والحقيقة أن غالبية الدولة كانت كذلك حتى في الشعارات والتسميات. لكن كان هناك بعض الحياء لدى من كان يقود المؤسسات الثقافية، لأنه كان يعلم أن الموهوبين الحقيقيين هم حكماً طلاب حرية وعدالة، وأن سمعة الثقافة السورية لن يجلبها إلا الفنانون الأحرار. فاستعمل هؤلاء المسؤولون الثقافيون، عبر سنين طويلة من الصراع مع كبار الكتاب والفنانين، كل الوسائل لتخفيف جرعة الحرية ولو لزم الأمر لمنعٍ له ما يبرره «من فوق». أخيراً أتيتم أنتم اليوم بمن يقبل أن يشهر بوضوح اليد الأمنية الخفية في كل مؤسساتنا ويرفعها قبضة لمن تسول له نفسه الفصل بين الدولة والسلطة. وإذا بنا أمام تماهٍ يخالف كل منطق، فالدولة للجميع وهي باقية، والسلطة زائلة مهما تغنوا بأبديتها. * مخرج سينمائي وتلفزيوني سوري