يستعرض كتاب «تاريخ الهجرات الدولية» للباحثة الإيطالية باولا كورتيا (مشروع «كلمة» للترجمة - أبوظبي، ترجمة عدنان علي) شؤون الهجرة في العالم، وتخوض الباحثة غمارها بأمانة وإمعان وتقصّ، فتعيد إلى الأذهان المأساة الحقيقية لأفراد وجماعات وشعوب ذاقت الويلات في غياهب المجهول، خصوصاً حين كانت الهجرة تمثل الوجه الآخر للعبودية، لا سيما عندما كانت ترادف -وتواكب- الاستعمار والتشريد والنفي السياسي والتهجير القسري وليس الفاقة فحسب. يسرد الكتاب تلك الوقائع فينعش الذاكرة التاريخية متطرقاً إلى مختلف مسارات الهجرة (الطوعية والقسرية) عبر التاريخ. وتوزعت فصول الكتاب عبر ترتيب زمني، من الهجرة في عصر ما قبل التصنيع، حين كانت المدن في أوروبا تجذب الناس، ثم الحروب ومعاهدات الصلح، فالاستعمار والهجرات القسرية، فالتصنيع والهجرات الكبرى من أوروبا، فاللاجئون والنازحون والمرحّلون قسراً من جميع أصناف المشردين والمنفيين بين الحربين. فضلاً عن النفي السياسي، إلى نهاية الاستعمار واستقلال الدول. إلا أن الهجرة في النصف الثاني من القرن العشرين اختلفت أسبابها عما سبقها، فالهجرة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين كان لها خصائصها ومميزاتها من «نظام الحصص» والهجرة «غير الشرعية». ولا يفوت الكاتبة أن تذكّر بقوانين العبودية السارية في الأميركتين لحين إلغائها مع نهاية القرن التاسع عشر، بما أثارت من صراعات اجتماعية وكراهية للأجانب في بلدان الاستقبال وما لها من تداعيات عائلية في بلدان الإرسال. وسلّطت المؤلفة الضوء على إيطاليا «بلد القدّيسين والبحّارة» وكيف تحولت من بلد إرسال للمهاجرين إلى بلد استقبال لهم. وتعمدت المؤلفة، في تناولها موضوع الهجرة، وضوح المادة وكتابتها في أسلوب حديث منسق ومنهجي، ما يتيح للقارئ مواكبة مسارات الهجرة القديمة والجديدة، فتكاد ترى البدو الرحل، أو ذوي الحرف والمهن، أو النازحين وهم يتنقلون في أرض الله الواسعة، كلٌّ ينشد ملاذه ومقامه. وما كان للمؤلفة أن تهمّش العلاقة الأصيلة بين الهجرة والعمل. فتتحدث عن أثر الهجرة ودورها في إنعاش الدخل الوطني في بلدان الإرسال، بفضل العملة الصعبة التي كان المهاجرون يرسلون بها إلى ذويهم. وما نتج من ذلك من تحسين لظروف المعيشة والأحوال الاقتصادية. ولا يقتصر الكتاب على ذكر البيانات والإحصائيات في هذا الإطار بل يضفي عليها تحليلاً بعيد الغور. وجاء في الكتاب أن إيطاليا كانت الدولة الأكثر تأثراً بالهجرة: «كانت حتى منتصف خمسينات القرن الماضي، البلد الأوروبي ذا العدد الأكبر من المهاجرين إلى الخارج». وتقول المؤلفة: «هكذا، تفرق ما يزيد على 25 مليون إيطالي في شتى أرجاء العالم في الفترة 1876-1976». كما أن الهجرة الداخلية، من الجنوب إلى الشمال، ميزت الواقع الإيطالي في النصف الثاني من القرن العشرين، حين كان أهل الجنوب يقصدون المدن الصناعية في الشمال «المتقدم»، وبما ترتب عليه من حساسيات وحزازات وتصدعات في النسيج الاجتماعي للبلد. ثم تحولت إيطاليا، وبصفة خاصة بعد المعجزة الاقتصادية في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، من بلد إرسال إلى بلد استقطاب واستقبال، وأخذت تشرّع وتسنّ قوانين الهجرة، مبتكرة نظام الحصص، وتتعامل مع ما يدعى الهجرة «غير الشرعية»، وبخاصة تلك الآتية من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. يتيح الكتاب استخلاص دروس وعبر، ومعرفة شاملة بما كانت عليه وما آلت إليه مسألة الهجرة عبر ما يناهز القرنين من الزمن. دروس يمكن الإفادة منها في إدارة أو تنظيم الهجرة، وهي المشكلة القديمة المتجددة عبر السنين. مؤلفة الكتاب باولا كورتي أستاذة التاريخ المعاصر في كلية العلوم التأهيلية في جامعة تورينو. لها الكثير من الدراسات حول المجتمعات الريفية الإيطالية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وحول حركات الهجرة في الزمن المعاصر. نسقت بحوثاً مشتركة بين الجامعات الدولية والوطنية، وقدمت تقارير في حلقات دراسية وندوات في إيطاليا وفي الخارج.