على خلاف ما يجري في باقي العالم العربي، تقدم الليبراليون في ليبيا على الإسلاميين في الانتخابات. هل لنا أن نقول إن هذا الاختيار الشعبي كان محسوباً ومقصوداً من الناخب الليبي؟ هل انتبه الناخبون مثلاً إلى خطورة الخلط بين السياسي والديني في بلدهم فأقدمت غالبيتهم على تفضيل دعاة الفصل على دعاة الخلط؟ أم إن هناك أسباباً أخرى لهذا الاختيار تتعلق بالواقع الليبي نفسه أو ربما بشخصية قائد التيار الليبرالي، محمود جبريل، السياسي المحنك والخبير الاقتصادي والشخصية الوطنية التي تنتمي إلى أكبر القبائل الليبية؟ لا يختلف الليبيون كثيراً عن باقي الشعوب العربية في كونهم شعباً متديناً حُرم أبسط حقوقه المدنية والسياسية والدينية في ظل ديكتاتورية القذافي التي امتدت اثنين واربعين عاماً. ومن الطبيعي جداً أن يسعى في أول انتخابات حرة لأن يستعيد ما فقده وهو الحرية، بكل تفاصيلها، الشخصية والسياسية والدينية. وكان متوقعاً أن يكون الليبيون أكثر التصاقاً بالقيم الدينية من غيرهم، باعتبارهم عاشوا في ظل نظام قمعي عزلهم عن الحضارة العالمية وحاول العبث بأفكارهم وأرزاقهم وبنيتهم الاجتماعية. وأول ما يتمسك به المرء في مثل هذه الحالات هو الهوية الدينية الفطرية الراسخة في أعماقه. وفعلاً نشأت الأحزاب والمجموعات الدينية بسرعة بعد زوال ديكتاتورية القذافي كي تستفيد من عواطف الناس الفطرية البريئة. وكان أكثر المراقبين يتوقعون أن تفوز هذه الأحزاب الدينية بالغالبية في الانتخابات، لكن تحالف القوى الوطنية بقيادة جبريل تفوّق عليها جميعاً. وهنا تكمن المفاجأة، إلا أن هناك ما يبرر هذا الفوز. قائد التحالف، محمود جبريل، شخصية كاريزمية وهو رجل متعلم وله خبرة ومعرفة سياسية واسعة، كونه درَس ودرَّس في الغرب واطلع على التجارب السياسية العالمية، ولديه خبرة في العمل الحكومي، إذ كان مستشاراً في حكومة القذافي. وقد أصبح رئيساً للوزراء في الفترة الانتقالية وأثبت حنكة وجدارة في المنصب قبل أن يستقيل بمحض إرادته كي يركز على التخطيط للعمل السياسي المستقبلي. وهو أيضاً ينتمي إلى قبيلة كبيرة يبلغ تعدادها مليون شخص (سُدس الشعب) موزعين على مناطق ليبيا كافة. وقد بدا الولاء القبلي واضحاً في الانتخابات، فلم يحصل تحالف جبربل على أصوات كثيرة في منطقة مصراتة مثلاً بسبب هيمنة قبائل أخرى فيها. والميزة الأخرى التي روَّج لها جبريل هي تدينه الشخصي، فلم يخفِ أنه شخص متدين يصلي خمس مرات في اليوم، ما طمأن المتدينين ودفعهم لأن يصوتوا له. وعلى رغم أهمية كل ما ذكر حتى الآن، فالسبب الأهم لفوزه على الأرجح هو أنه تمكن من توحيد معظم القوى غير الدينية، وضمها إلى تحالف القوى الوطنية الذي يقوده. وهذا ما لم يتمكن من تحقيقه أي زعيم سياسي آخر، في تونس أو مصر أو العراق. ظلت القوى الليبرالية في المجتمعات العربية مشتتة بل متناحرة يحارب بعضها بعضاً، ما سهّل على القوى الدينية أن تهزمها، حتى في البلدان التي لا يشكل فيها التيار الديني القوة الأكبر في المجتمع كالعراق ومصر وتونس. في العراق مثلاً لم يتمكن زعماء التيارات العلمانية من التوحد حتى في كتلة انتخابية واحدة، بل ظل أحمد الجلبي وأياد علاوي وصالح المطلك وقادة سياسيون آخرون متفرقين متخاصمين يحارب بعضهم بعضاً، بينما اتحد الإسلاميون في ائتلاف واحد تمكن من الفوز عليهم جميعاً. وإن تمكن المطلك وعلاوي والنجيفي من التوحد (رسمياً على الأقل) في الانتخابات الثالثة بعد التغيير، فإن الجلبي ظل متحالفاً مع القوى الدينية على رغم كونه علمانياً. وفي مصر، بقي العلمانيون متفرقين، ولم يتمكن أحمد شفيق وعمرو موسى وحمدين صباحي وأيمن نور من التفاهم والدخول في تحالف انتخابي واحد يمكّنهم من الفوز، بل ظلوا متخاصمين يتنافسون في الساحة ذاتها ما تسبب في تفريق أصواتهم وتقدم مرشح «الإخوان» محمد مرسي عليهم بفارق بسيط ثم فوزه بالرئاسة. لقد صوّت السلفيون المصريون لمرسي في الجولة الثانية على رغم اختلافاتهم العميقة مع «الإخوان»، لكنهم أدركوا أن «الإخوان» أقرب إليهم من العلمانيين فتناسوا خلافاتهم وتفاهموا معهم وحققوا معاً مكاسب كبيرة. وبقي الزعماء العلمانيون على خلافاتهم الحادة بل نصح بعضهم أنصاره بالتصويت لمحمد مرسي في الجولة الثانية بدلاً من أحمد شفيق، لغياب التخطيط الاستراتيجي عندهم وتفضيلهم المصالح الشخصية القصيرة الأمد على المصلحة العليا لتيارهم. أما في تونس فالعامل الأهم لفوز حركة «النهضة»، إضافة إلى تفرق الليبراليين، هو سلوك الحزب منهجاً معتدلاً مكّنه من نيل ثقة الشارع، إذ طمأن الناس إلى أنه لن يحاول فرض الشريعة الإسلامية، بل وضع في الدستور مادة تقول «إن الإسلام هو دين البلد» وليس الدولة، وهناك فرق كبير بين الاثنين. الدولة تنظم شؤون أفراد المجتمع جميعاً، مسلمين كانوا أم مسيحيين أم لادينيين، وتسعى إلى حفظ حقوقهم، بينما الطابع العام للبلد إسلامي، وهذا يقره الجميع وليس فيه فرض على أحد. كما أن قيادة راشد الغنوشي الناجحة وشخصيته الكاريزمية المحببة وفكره المنفتح أكسبته وحزبه شعبية واسعة انعكست لمصلحته في الانتخابات. أما خصومه العلمانيون فقد بقوا متفرقين ما أفقدهم السيطرة على البلاد، على رغم أن خطهم ربما الأكثر اتساعاً وقبولاً فاضطروا للقبول بمنصب شرفي كرئيس الجمهورية. قيادة محمود جبريل وكاريزميته واعتداله وخبرته السياسية ومعرفته بطبيعة الشعب الليبي، وشخصيته المحببة، دفعت القوى غير الدينية للانضواء تحت قيادته وشجعت الليبيين على التصويت للتحالف الذي يقوده. فإن بقي التحالف متماسكاً سيقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وينظم شؤونها ويؤسس لثقافة التسامح والمصالحة والتعايش والمجتمع المدني. كما أن الخبرة الاقتصادية لجبريل ستساهم في التأسيس لاقتصاد سليم يستفيد من الثروة النفطية في دعم البنى الأساسية للاقتصاد ولكن لا يعتمد عليها كلياً ليجعل من بلده ريعياً، يعيش على جهود الآخرين. الدرس الليبي بليغ، فهل ستستفيد منه القوى الليبرالية والعلمانية في العالم العربي؟ أم ستواصل تناحرها وتبقى تلهث وراء سراب المناصب والمكاسب؟