لم يفرغ الروائي الأميركي راسل بانكس من الكتابة عن عالم المهمَّشين في وطنه. ففي روايته الجديدة التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً لدى دار «أكت سود» بعنوان «ذكريات الجِلد المفقودة»، يتناول ببصيرةٍ وجرأةٍ نادرتَين قدَر مرتكبي الجُنح الجنسية داخل المجتمع الأميركي الذي يُشكّل في نظره خير مقياس لإنسانية، أو بالأحرى لعدم إنسانية هذا المجتمع. واختيار بانكس مدينة ميامي (ولاية فلوريدا) التي يقيم فيها منذ سنوات إطاراً لروايته ليس عبثياً. فالمسؤولون السياسيون فيها عثروا على وسيلة للتخلّص من مرتكبي الجنح الجنسية بسنّهم قانوناً يمنع هؤلاء من مغادرة المدينة بعد خروجهم من السجن، وفي الوقت ذاته يجبرهم على العيش على مسافة لا تقل عن 760 متراً من أي مدرسة أو مكان تجمّع للأطفال، مما لا يترك أمامهم خياراً آخر سوى العيش تحت جسر كليربورن المشيّد على طرف المدينة. وفي هذا «السجن» الجديد من نوعه الذي لا تتوافر فيه أقل شروط النظافة والأمان وحيث استُبدل القيد الحديد في قدَم «السجين» بسِوار إلكتروني، نتعرّف على بطل الرواية، الفتى «كيد» البالغ 21 سنة، بعدما أمضى ثلاثة أشهر في السجن لجنحةٍ جنسية، مع العلم أنه لم يلمس يد فتاة في حياته! وبسرعة يتبيّن لنا أن هذا الفتى هو في الواقع ضحية مجتمعه منذ ولادته. فإلى جانب كونه لم يعرف والده قط، لم يلق أي عناية من أمه المنشغلة دوماً بعشّاقها الكثر، مما قاده، منذ العاشرة من عمره، إلى تشييد عالمٍ افتراضي حوله وإلى سدّ نقصه العاطفي وتلطيف وحدته بإدمانه مشاهدة أفلام إباحية على شبكة الإنترنت. وعلى هذه الشبكة، تعرّف «كيد» على المراهقة القاصر «براندي» فتحاورا وقرّرا في النهاية الالتقاء في منزلها، لدى غياب والدتها. لكن «كيد» الساذج لم يحزر أن موعد حياته الأول هو في الواقع فخّ نصبته الشرطة للإيقاع بمَن يتحرّش جنسياً بالأطفال والقاصرين، فيتم القبض عليه فور وصوله إلى منزل «براندي» ويُرمى في السجن ويوضع اسمه وصورته على لائحة مرتكبي الجنح الجنسية الرسمية. ولأن والدته ترفض التعرّف عليه على أثر هذه الحادثة، يستقرّ الفتى، بعد قضاء عقوبته، تحت جسر كلايبورن برفقة صديقه الوحيد «إيغي»، وهو عظاية كبيرة أهدته إياها أمّه وهو صغير، فيعاشر جميع أنواع المنحرفين قبل أن يقع عليه أستاذ الجامعة، بطل الرواية الثاني، بالصدفة فيختاره كموضوع مثالي لبحثه حول ظاهرة المشرّدين في المدينة ويساعده بشتى الطرق على تجاوز محنته وأحكامه السلبية السابقة على المجتمع... كثيرون هم النقّاد الذين رأوا في شخصيتَي الرواية الرئيسيتين وجهَين من شخصية بانكس نفسها وقرأوا حواراتهما كاصطدامٍ بين مفهومَين للعالم اختبرهما بانكس في حياته وتمكّن من مصالحتهما داخله. وما يبرّر هذه القراءة هو، من جهة، أصول الكاتب المتواضعة ومعاشرته عن قرب في صغره مراهقين في حالة الفتى «كيد»، مما يفسّر أيضاً يُسره الكبير في استخدام لغتهم الملونة والفصيحة على رغم فظاظتها والأخطاء النحوية التي تعتريها؛ ومن جهة أخرى، ولكونه أستاذاً جامعياً أيضاً يتقن اللغة العلمية التي تستخدمها شخصية «الأستاذ» طوال الرواية لطرح نظرياتها التقدّمية وتحليل ظاهرة الجِنح الجنسية المتكاثرة داخل المجتمع الأميركي، والغربي عموماً. اللغة المنتظرة لكن التسليم بهذه القراءة يعني إنكار قدرة بانكس على تجاوز نفسه وإنكار مهارته المعروفة في خلق جميع أنواع الشخصيات وجعلها تتكلم باللغة المنتظرة منها. ومع أن نموذج الثنائي المؤلّف من رجلٍ متقدّم في السن وحكيم وفتى لم يختبر الحياة بعد متواترٌ في أعماله السابقة، لكنّ التضارب في نصه الأخير بين شخصيتَي «كيد» الساذج والهزيل و»الأستاذ» العبقري والسمين ليس سوى ظاهري وينحسر بسرعة لصالح تشابه مدهش. فالاثنان مدمنان، الأول على أفلام الإباحة والثاني على الأكل، والاثنان يعانيان شعوراً بالعزلة ويتألّمان داخل جسديهما. ومعاً يشكّلان بالتالي صورةً قاسية لمجتمعٍ أميركي ممزّق بين تزمّت أخلاقي واستهلاك مسعور وإباحية متفشّية؛ مجتمعٌ يريد حماية أطفاله بعدما حوّلهم بواسطة شبكة الإنترنت إلى فريسة سهلة للمنحرفين. وكما في كل رواياته السابقة، يطرح بانكس في نصّه الأخير سؤالاً مزدوجاً ثابتاً: ماذا فعلنا لأطفالنا؟ وماذا فعلنا بهم؟ سؤالٌ يقوده إلى التنديد بنتائج طغيان الافتراضي (le virtuel) على حياتنا بواسطة الإنترنت والتقنيات الرقمية، أي فقداننا أصالة الاتصال الحقيقي والمباشر بالآخر وانفصالنا السريع عن الواقع وخضوعنا بسبب التقنيات المذكورة إلى مراقبة ثابتة. وفي السياق ذاته، يفضح بانكس الانحرافات الناتجة عن الإفراط في سنّ -وتطبيق- قوانين غايتها الاستيهامية «تأمين أمن المجتمع». وأوّل هذه الانحرافات هو دفع أولئك الذين يريد المجتمع مراقبتهم ومعاقبتهم إلى منفى داخلي وخيم العواقب. وبالتالي، يظهر مسار «كيد» في هذه الرواية كمسار يقظةٍ على واقع العالم المأسوي فثمة أكثر من دربٍ من أجل تكفير خطاياه. ومع أن «الأستاذ» ينجح في تحويل طائفة المشرّدين تحت جسر كلايبورن إلى مجتمع ديموقراطي منظّم، لكن ذلك لن يكفي لاسترداد أفراد هذا المجتمع كرامتهم بل سيقود إلى دمار «قريتهم» على يد رجال الشرطة أولاً ثم على يد إعصارٍ يقتلع كل ما تم تشييده ويغيّر وجهة الرواية وطبيعتها فتتحوّل إلى بحثٍ مفتوح ولا نهاية له عن الحقيقة. وموضوع الحقيقة في أعمال بانكس ثابتٌ أيضاً مثل موقفه منها الذي يختصره هذه المرّة بالسؤال: هل يمكن بلوغ الحقيقة في عصرٍ تصل فيه الأخبار محوّلة على يد السلطة، ثم على يد الإعلام، وأخيراً على يد الناس المصابين بذهانٍ تأويلي من فرط اعتقادهم بأن السلطة والإعلام يكذبان عليهم؟ الجواب السلبي حتماً على هذا السؤال يدفع «كيد» في آخر المطاف إلى تبنّي قناعة «الكاتب» الذي يظهر كشخصية روائية في نهاية الرواية: «نعرف ما نصدّق به: هذا كل ما يمكننا إدراكه في هذه الحياة». الحقيقة الوحيدة المسيَّرة طوال النص هي أن «الظاهر دوماً خدّاعٌ». فحتى منتصف الرواية، نظن أن «كيد» هو مرتكب جنحة جنسية، من دون أن نعرف طبيعتها، إلى أن يتبيّن لنا أنه لا يزال بِكراً! وكذلك الأمر بالنسبة إلى «الأستاذ» الذي تبقى حقيقة شخصيته مخفية وملتبسة حتى النهاية.