ثمة شعور خافت لكنه واضح بأن بعلبك عادت تشتهي مهرجانها. ثمة فارق ملموس في حال النظافة حول القلعة. وثمة زهو مستبشر لدى شبان وقفوا على النواصي يمنحون الوافدين باقات خجولة من الزهر. هل هي عودة متوثبة لاسترجاع مجد مضى؟ أم هي الحاجة المعيشية الى مساهمة المهرجان في إنعاش بعلبك؟ للمرة الاولى منذ سنوات نرى أن المقاومة لم تقم متحفها على المدخل الرئيس. ولعل ذلك نتيجة حوار دار في الظل عن جدوى الرسوم والشعارات في نطاق تظاهرة دولية ذات أبعاد ثقافية وفنية بحتة. لا ريب أن ثمة من أقنع المقاومة بأن الأقل أكثر، وبأن بعض الغياب حضور ولا اقوى. لكن تلك التباشير الصغيرة لا تعفي الزائر من فوضى السير والوقوع في «سرمدية» أعمال البلدية وشركائها، فعلى رغم توافر الوقت لتهيئة المدينة في صورة لبقة ولائقة احتفاء بالمهرجان، ما زلنا نشعر ب «قندهارية» مريعة في التعامل مع الآلة والأرض فور بلوغنا مدينة الشمس. ولم يعد فكاهياً على الأطلاق وجود دراجتين لقوى الأمن مهجورتين على مستديرة غير منجزة تجبر السائق على ارتجال دربه طرداً وعكساً وكيفما أتت تأتي بينما يسترسل الدراجان على بعد عشرات الامتار في مخابرات غرامية يجوز تخيّلها مع معجبات عجيبات ب «الشهر الامني العتيد»! نسينا أديلمو فورناشييري المعروف باسم «زوكّيرو» وهو صلب الموضوع. مساء أول من أمس يمكن القول من دون مبالغة ان زوكّيرو قدم نفسه قرباناً على سفح معبد باخوس. لم يكن يعرف أن فئة محدودة من الجمهور تعرفه وفئة أخرى مستعدة بحق ان تتعرف اليه، أما السواد الأعظم فكانوا «جايين يسهروا». فزوكّيرو الايطالي نجح أوروبياً بقوة، لكنه لم يترك بصمة ساطعة في الولاياتالمتحدة، المصدر الاساس للشهرة الواسعة في مجال الغناء العالي. ولو كان زوكيرو فرنسياً أو إنكليزياً لهانت مسألة التواصل معه، ولوصلت سمعته المميزة الى الجمهور اللبناني والعربي على السواء. لكنه إيطالي ومعظم اغانيه بلغته الأم. صحيح شارك زوكّيرو إيريك كلابتون وبادي غاي، واحياناً بافاروتي في حفلات هنا وهناك، لكنه نسيج موسيقي وشعري على حدة، ولو ان اللجنة التي قررت دعوته الى لبنان استعادت، ولو لوهلة، فحوى الرسالة الثقافية التي قامت عليها أعمال مهرجانات بعلبك طوال اكثر من نصف قرن، لما تأخرت في بذل جهد بسيط لتحقيق تواصل فعال بين الجمهور وزوكّيرو. كان ممكناً ومن دون تكاليف تذكر أن تمر على لوحة الكترونية مضاءة شذرات مختارة من أغاني زوكّيرو، هدفها ربط المتلقي بفحوى الأغنية، علماً أن معظم تلك الاغنيات قائم على ثلاث أو أربع عبارات تتمحور حولها مناخات جازية و «بلوز» وموحيات من الإنشاد الزنجي الإنجيلي، فمتى أدركنا الموضوع المطروح قيض لنا الاستمتاع بالغناء والموسيقى من دون الانصراف الى «البقبشة» كالعميان عن معنى كلمة - مفتاح تنقلنا الى قلب اللحن وتترك لنا المجال الفسيح لتذوق المستوى العالي والمبهر في غناء زوكّيرو. لنأخذ مثلاً أغنية «عيون» وهي من أجمل أغانيه، فلو أدركنا أنه يقول: «ثم رأيت عينيك/ وانا في الطريق الى البيت... مثل ذرات تلقى من يد الريح... إنهما كرزات دموعي». ما تبقى من الاغنية تكرار بوحيّ يستعيد الريح والنجوم والنجوى والجمال بأقل ما يمكن من الكلمات. لكن بطاقة دخولنا فضاء الأغنية لم تترافق مع بطاقات الدخول الى القلعة. وفي أغنية «وحده الحب» اربع عبارات ثمينة كانت ستكفي لربطنا بالأغنية: «ما اكرهه فيكِ/ هو ما لا تفهمينه/ ما لا تقولينه لي/ ما تخفينه في ذاتك...». بالطبع هزج الجمهور تلقائياً للأغنيات ذات الإيقاع العالي، خصوصاً تلك القريبة من أسلوب ال «فانك» الأميركي، فألايدي سريعة التجاوب مع أول نقرة دف من أين أتت، و «الجمهور عايز كده» لأنه «جايي يسهر وبس».