أسقط الحدث السوري الأقنعة فظهرت من ورائها الوجوه الحقيقية لحالة الصراع الحقيقية التي أعادتنا إلى ما يُشبه زمن الحرب الباردة التي كان فيها الاتحاد السوفياتي والصين يقودان (في شكل منفصل ومتناكف) المواجهة الشرقية ضد الغرب. الحدث السوري أظهر مقدار التفاهم والتقارب وحتى التحالف بين الصين وروسيا، بحيث جاء موقفهما المدافع عن النظام السوري ضد أي تدخل أجنبي، بمثابة إنذار حقيقي نوعي على مفصل تبدل اللعبة الدولية نهائياً في العالم. وما يسبق الحدث السوري تطور استراتيجي خطير منذ إعلان الرئيس باراك أوباما عن خطة بلاده الإستراتيجية في جنوب شرقي آسيا (وثيقة «البنتاغون» مطلع العام 2012)، والتي بموجبها سيُنقل الثقل العملياتي الأميركي من المسرح الأوروبي إلى المحيط الهادئ. الخطة تفصح علناً عما بات معروفاً من توجس أميركي من خطر تعاظم قوى الصين في المجالين الاقتصادي والعسكري. والخطة تهدف في شكل علني (وربما وقح) إلى السعي لتقييد حركة العملاق الصيني واتقاء تطوره. الأمر يشكل استفزازاً للصين ويستدعي ردّاً مناسباً يحمي نفوذها التاريخي في ما هو مجالها الحيوي الإستراتيجي. روسيا، من جهتها، تخرج من تخبطها الداخلي والإقليمي الذي سببه سقوط الاتحاد السوفياتي. تستعيد روسيا عافية اقتصادية اعتمدت في شكل أو في آخر على النفط والغاز، إضافة إلى تطور في النظامين الصناعي والمالي. روسيا لم تصب بالزلزال الاقتصادي الذي ضرب العالم، وبقيت بنيتها الاقتصادية (نسبياً) بمنأى عن الانهيار الكبير. وروسيا التي شهدت سقوط حصونها واحداً بعد الآخر (آخرها نظام معمر القذافي في ليبيا)، وجدت في الحدث السوري مناسبة سانحة للعودة إلى المسرح العالمي كلاعب أساسي في تقرير مصير هذا العالم. لروسيا مصالح مباشرة تتعلق بحضورها في سورية (وهو ما لا ينطبق على الصين). فعلاقات موسكو مع دمشق تاريخية منذ علاقات الاتحاد السوفياتي مع دمشق. كما أن العلاقات العسكرية الروسية -السورية كانت إحدى دلالات التميز الروسي في المنطقة العربية بعد الانسحاب المهين للنفوذ السوفياتي في مصر (أيام السادات). صحيح أن موسكو ارتبطت بعلاقات تسلح مع دول عربية أخرى، بيد أن الحالة السورية بقيت خاصة، ومتقدمة، إلى درجة إقامة قاعدة بحرية في ميناء طرطوس. لكن الأمر بالنسبة الى روسيا لا يقتصر على صفقات أسلحة وقاعدة بحرية، بل إن سقوط النظام السوري يفقد موسكو موقعاً محورياً في قلب تحالف استراتيجي تمثله الحالة السورية (ومناخها المحيط)، يرتبط بإيران، مروراً بأفغانستان، انتهاء بالصين وضواحيها الجغرافية. والأمر بالنسبة الى روسيا منازلة كانت مؤجلة لإعادة رسم خريطة النفوذ الدولي، والاتفاق أو عدمه، على سلة شاملة من الملفات لا تبدأ بنفوذ موسكو في مجالها الحيوي المحلي، ولا تنتهي بخطط واشنطن نشر منظومات صاروخية تهدد القدرات الردعية الروسية. العلامات العلنية للحلف الروسي-الصيني الجديد ظهرت جلية في ما شهده بحر الصين من مناورات لافتة (أُجريت في نيسان/أبريل الماضي)، جاءت في أعقاب مناورات للأسطول السابع الأميركي مع وحدات فيليبينية وكورية جنوبية داخل مياه بحري الصين واليابان. الرد الصيني على وثيقة أوباما جاء على لسان صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم بالقول: «لن يكون في مقدور واشنطن أن تمنع بزوغ شمس الصين». وربما أن روسيا فهمت مبكراً أن مصالحها الإستراتيجية ووضع حد لحال القضم الحاصل في مصالحها ونفوذها تستدعي على عجل ابتعاداً عن الخيار الغربي الذي دشنه بوريس يلتسين وأجاد بوتين الرئيس في ولايته الأولى صيانته والدفاع عنه. أثبتت علاقات موسكو وبكين وعياً مشتركاً لثوابت عدة. أهم تلك الثوابت رفض التفرد الأميركي الذي ساد العالم خلال العقدين المنصرمين. وإحدى أداوت هذا «التمرد»، معارضة قوننة مفهوم «التدخل الإنساني» الذي طبّقه حلف «الناتو» في حرب كوسوفو العام 1999، وتتفق روسيا والصين على رفض مشروع الدرع الصاروخية ومسوغتها الأميركية، الزاعمة بأنها موجهة ضد الصواريخ الإيرانية والكورية الشمالية. وتعتبر كلتا الدولتين أن واشنطن تتقصد من نصب الدرع في شرق أوروبا، المس بأمنهما القومي، وجرّهما مرغمتين إلى حلبة سباق التسلح. ويشي السياق الصيني-الروسي الحالي بأن البلدين ذاهبان إلى المواجهة إلى أقصى حدود ممكنة. وفي العبارة الأخيرة (الحدود الممكنة) عملية بحث دائم يقوّمها الصينيون والروس من أجل تحري مساحة المناورة المتاحة في حراكهما. ومع ذلك، فإن تناقضات تضع علاقة الصين وروسيا في إطار نسبي عرضي موقت. فالصين قوّة صاعدة متزايدة في المجالات الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، فيما قوّة روسيا تراوح مكانها على رغم جهود بوتين، وستبقى روسيا متراجعة عن التقدم الصيني. هذا الأمر قد يثير حساسية الكثير من الفئات الروسية وبالتالي يعرقل العلاقة مع الصين. ومن جهة أخرى، فالصين تشهد كثافة سكانية عالية إذا ما قورنت بتلك في روسيا، وهناك من يرى من القوميين الروس أنّ هذه المسألة تشكّل خطراً و تهديداً لروسيا من حيث إنّ الانفجار السكاني الصيني لا بدّ من أنّ يدفع الصين إلى التمدّد الجغرافي فتكون روسيا هي الضحية. كما أن الطموحات الروسية أوروبية على الأغلب، بينما تعتبر الصين أنّ آسيا منطقة نفوذهم الاستراتيجي ونطاقهم الحيوي، الأمر الذي سيحد من تحرّك روسيا كقوة في آسيا ولن يكون لها موقع مميّز فيها، ما سيثير حفيظة الروس على الأغلب ويلقون باللوم على الصينيين. كما أن الاعتراض الصيني على دعم روسيا العسكري للهند وتزويدها أحدث التقنيات العسكرية وأنظمة الدفاع، بخاصّة أنّ الصين ترى أنّ بعض القوى الراغبة في عرقلة مسيرتها يريد أن يدعم الهند لتصبح قوة آسيوية موازية للصين وبالتالي يقف في وجهها ويحدّ من قدراتها، ولا شكّ في أنّ المسعى الروسي في هذا الاتجاه سيصطدم بالانزعاج الكبير للصينيين. لم تعد الحرب الباردة أمراً ممكناً في القرن الحادي والعشرين. فمصالح روسيا والصين مرتبطة في شكل حيوي بالسوق الاقتصادي العالمي ومراكزه المالية الكبرى. بما يعني أن القطيعة على الطراز القديم تؤذي موسكو والصين، وربما بقياسات كبرى. ثم ان محور فلسفة التطور في البلدين يتأسس على الاقتصاد، وكم يكره الاقتصاد الصدام والحرب، ولو كانت باردة. * صحافي وكاتب سياسي