تفرّدت فرقة «ناس الغيوان» المغربية في تقديمها أغاني تعبّر عن مشاكل الإنسان المغربي البسيط المقموع والمضطهد، خصوصاً في «سنوات الرصاص» حين ساد القمع والإرهاب وتكميم الأفواه. لم يقتصر تأثير الفرقة التي تناولت قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية عربية أهمها احتلال فلسطين والفقر والأمراض التي تفتك بالقارة السوداء، على المستمع المغربي، إنما ذاع صيتها في العالم العربي أجمع. وذلك بسبب ما تحمله من شحنات تعبيرية تغذي تطلعات الأطياف السياسية كافة. أما عامة الناس، فوجدوا فيها متنفساً لما يعتمل في صدورهم من ألم ومعاناة بسبب شظف العيش أو فقدان الحرية والأمان، إذ دانت بعض أغاني الفرقة معاهدة «كامب ديفيد» التي أبرمها الرئيس الراحل أنور السادات مع إسرائيل، إضافة إلى تغنيها برموز دينية لها قداسة ومكانة وعلى رأسها النبي محمد (ص). استطاعت الفرقة التي اعتمدت كلمات أغانيها على الموروث الشعبي الذي نجح شاعرها العربي باطما في مزجه بروح عصرية شبابية تقبلتها ذائقة ذلك الجيل المهمش، أن تتفرّد أيضاً على صعيد الجملة اللحنية والموسيقى التي جمعتها من كل أنحاء المغرب وما يتميز به من تنوع ثقافي عربي أمازيغي أفريقي أندلسي. يرى الباحث المتخصّص في «الظاهرة الغيوانية» مبارك حنون، المعروف بشغفه بالفرقة وخصّها بدراسات متوالية، أن تعلّق الناس بأغاني الغيوان يعود الى تجاوبها مع هموم اليافعين آنذاك وعكس قلقهم الفكري والوجداني وهواجسهم ومُثلهم وأحلامهم وأوهامهم. ويضيف: «كانت هذه القضايا خبزنا السياسي اليومي لأن الفعل السياسي هو الفعل الاستشرافي والمستقبلي والمحرر، وكان من المحرمات مثلما كان القول الغيواني والفعل الغيواني. لقد كنا جيل احتجاج وجيل فعل سياسي جديد». ويوضح أن للاحتجاج في أغاني «ناس الغيوان» مستويات، لكنها تُصنّف احتجاجية وملتزمة أو سياسية حتى وإن خلع عنها أصحابها هذه الصفة». مارتن سكورسيزي ويعتبر الكاتب المغربي كريم تورام، أن التزام قضايا المجتمع والوطن والأمة العربية لا يكفي وحده لنجاح العمل الفني. ويشير الى أن سرّ نجاح مجموعة «ناس الغيوان» تبدّى في كلمات العربي باطما الذي كتب مجمل الأغاني لأنه كان زجالاً موهوباً بما تحمله الكلمة من معنى، مضياً أنه بوفاة الرجل «فقدت المجموعة بريقها، إذ لم تضف الكثير إلى منجزاتها السابقة رغم ما عرفه المغرب والعالم العربي من تحولات عميقة». لكن هل يعود توظيف بعض الجهات أغاني «ناس الغيوان» سياسياً الى كون أعضاء الفرقة مسيّسين ولهم توجهات إيديولوجية يروّجون لها فنياً؟ يقول القاص أنيس الرافعي إن غالبية أعضاء الفرقة لا تحمل موقفاً سياسياً ملتزماً وتكوينهم لا يسمح لهم بذلك، لأنهم عندما بدأوا أواخر الستينات كانوا شباباً ينحدرون من الحي المحمدي بدأوا حياتهم الفنية مسرحياً مع فرقة الطيب الصديقي. ويؤكد أن مثقفي اليسار هم مَن حمّلهم هذه الشحنة وأعطى الغناء الغيواني هذا التأويل. وحول ما آلت إليه حال الفرقة التي فقدت كثير من بريقها القديم بسبب رحيل عدد من أعضائها وكبر سن البعض الآخر وانتقال عضو الفرقة عمر السيد إلى التمثيل، يقول الرافعي صاحب كتاب «الشركة المغربية لنقل الأموات»: «كانت فرقة أسطورية بفضل الفنانين الذين شكلوها، لكن بعد تواريهم أضحت «ناس الغيوان» علامة فنية تنتمي الى الماضي، فكان لزاما أن تتوقف». ويضيف: «المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي أخبرهم بذلك، وعشاق الغيوان يريدون أن يتذكروا زمنها الجميل فقط وأن يحتفظوا بالصورة التي ظهرت فيها الفرقة في فيلم «الحال» الذي طاف العالم عارضاً لوناً موسيقياً روحانياً يستلهم كل الثرات الموسيقي المغربي». لكن الإعلامي والشاعر ياسين عدنان الذي استضاف قبل أسبوعين أحد مؤسسي الفرقة الفنان عبدالعزيز الطاهري في برنامج «مشارف»، يعارض رأي الرافعي بضرورة أن تتوقف الفرقة. ويلفت الى أن «ناس الغيوان» إحدى الظواهر الفنية الاستثنائية في مسار الأغنية المغربية، «عرفت كيف تمزج بين التراث الفني الرعوي من جهة والتراث المراكشي الملحوني من جهة أخرى، لتصنع أغنية ضاربة في عمق التراث المغربي». ويوضح ياسين صاحب قصص «تفاح الظل» أن الفرقة أضافت إلى الحياة روحاً احتجاجية جعلتها تتصدر المشهد الفني في السبعينات من القرن الماضي كناطق رسمي باسم شبيبة المرحلة. ويستغرب أن هذه الظاهرة التي ظن كثيرون أنها عابرة ما زالت حتى اليوم قريبة من وجدان المغاربة من مختلف الأجيال وما زالت مطلوبة بين الأوساط الشبابية. وعلى رغم مرور أكثر من أربعين سنة على انطلاق «ناس الغيوان» تواصل هذه الفرقة التي رحل معظم نجومها شق طريقها وحاضرة في المشهد الفني، كما لا تزال موضع دراسة وبحث. فلا يمرّ شهر إلا يرد ذكرها في الصحف والمجلات وفي الإصدارات الحديثة. فقد كتب الشاعر المغربي حسن نجمي في مقالة بعنوان «أصوات حية من داخل الرحم الشعبي»، أن الالتفاف الجماهيري حول «ناس الغيوان»، والاحتضان الفكري والأدبي والنقدي للظاهرة التي أصبحت تاريخاً، ليسا صدفة». كتب عن الإنتاج الغيواني وعن مسارات أفراد المجموعة وأصالة تجربتهم، عدد وافر من الشعراء والكتاب والباحثين والإعلاميين بمختلف اللغات ومن مختلف الأجيال، منهم الكاتب طاهر بن جلون الذي وصف أعضاء الفرقة بأنهم «مخلصون لجذورهم ولمآثر الإخاء ولمتخيّل شعب بأكمله».