عند النقاش عن التكفير بين المهتمّين بقضايا الحقوق والحُرّيّات، خصّوصاً في الحالات المتعلّقة بمعتقَد أو فِكر أو رأي للمستهدَف بالتكفير، نجِد مَن يُطالب بالإقرار بحقوق الإنسان الطبيعيّة في حُرّيّات المعتقَد والفِكر والرأي وضرورة الحدّ مِن أيّ تهديد أو تقييد لها، ونجِد مَن يرى أنّ التكفير في ذاته معتقَد وفِكر ورأي يحقّ لمَن أراد ممارسته، هو نقاش مثير للاهتمام لأنّه يكشف ما يبدو تناقضاً منطقيّاً في فلسفة الحُرّيّة، إذ كيف يُعقل أن تكون حماية حُرّيّة إنسان في الاعتقاد والتفكير وتبنّي الآراء «المُكفَّر» بقمع الحُرّيّة نفسها لإنسان آخر «المُكفِّر»؟ وهنا يُقال تكراراً إنّ حقّ الفرد في حُرّيّاته محدود بعدم تعدّيه على حقوق غيره فيها، كما يتجلّى مفهوم «الحُرّيّة القُصوى» التي يتعيّن أن تكون الغاية لكلّ فرد. في مجتمعاتنا ذات الغالبيّة المُسلِمة، لا بُدّ أن نفصل بين الواقع الكائن حاليّاً وما يجب أن يكون عليه في المستقبل، صحيح أنّ التكفير في حدّ ذاته رأي، له ما لأيّ رأي من حُرّيّة طبيعيّة، وعليه ما على أيّ رأي من احتمال الخطأ أو الإساءة للغير، وتقريباً كلّ دين يُكفّر أتباعُه مَن لا يعتنقه، سواءً أطلقوا عليهم لقب «كُفّار»، أو «أغيار»، أو «ضالّين»، وكذلك يحدث بين المذاهب. ما يجب أن يكون عليه الوضع هو ألا يؤدّي هذا الرأي الطبيعيّ إلى قتل أو إيذاء المستهدَف بالتكفير في حقوقه وحُرّيّاته الطبيعيّة، مثلما هي الحال في المجتمعات المتقدّمة التي تخطّت حضاريّاً العنف الدينيّ. أما في الواقع الكائن والمتمثّل في مجتمعات تختلط فيها السياسة بالدّين، ويُعَدّ دور السُلطة أن تنوب عن الإله، وتستمدّ شرعيّتها وتشريعاتها مِن مدرسة فقهيّة دينيّة سائدة (أي ثيوقراطية، سواء حَكَم رجال دين مباشرة، أو اتّخذت الدولة مؤسّسة دينيّة)، فالتكفير ليس مُجرّد رأي. في مجتمع ما زال يسوده العنف الدينيّ، يُصبح رأي التكفير بمثابة إطلاق رصاصة قد تقتل أو تشلّ المستهدَف، ورُبّما ينجو إن كان محظوظاً، وقد تُطلَق الرصاصة مِن طرف سياسيّ أو أهليّ أو كليهما، وقد تتطوّر الرصاصة إلى قنبلة عنقوديّة تطول المستهدَف وعائلته وجماعته ومَن يُعتبر أنّه على شاكلته. التكفير هنا ليس مثل الحرمان الكنسي الذي تحكُم به الكنيسة الكاثوليكيّة على مَن خرج عن مذهبها فيمنعه مِن ممارسة طقوس القُربان المقدّس، بل هو تحريض يُشكّل أخطر ما قد يُصيب الإنسان في حياته وحُرّيّته وأسرته وماله وسُمعته. التكفير هنا لا يُفرّق بين فِكر المكفَّر وشخصه وأهله، والمكفِّر لا يستسيغ موقف ڤولتير الذي وُصف بمقولة: «لا أوافق على ما تقول، ولكنّي سأدافع حتّى الموت عن حقّك في أن تقوله»، لأنّ ڤولتير أصلاً كافر بلا تكفير في نظره. التكفير هنا عندما يتجاوز الفرد إلى الطوائف والفئات يقتل الوحدة الوطنيّة، بل يُمزّق الأوطان ويُهدّد جدّيّاً بإثارة فِتَنٍ أهليّة. ألا نرتعد لتصوّر ما يُمكن أن تُشعله حملات التكفير التحريضيّة، الفرديّة والجماعيّة، التي يقوم بها بإصرار بعض كبار المشاهير مِن منابرهم في المساجد وفي «تْوِيتِر» و«يوتيوب»، التي تؤثّر على ملايين البشر؟ وهنا يجدر بنا النظر في سنّ قانون ضدّ التحريض، كما فعلت دول غربيّة عندما استوعبت خطورته الأمنيّة والمجتمعيّة، على الأقلّ إلى أن تتوصّل الدولة إلى تحقيق نظام مدنيّ ديموقراطيّ يضمن حُرّيّات وحقوق المواطن، وإلى الارتقاء بالمجتمع حضاريّاً فوق ثقافة العنف والتفرقة على أساس دينيّ أو عِرقيّ أو جِنسيّ أو ثقافيّ، ليُصبح حاضناً لهذا النظام، يُغذّيه ولا يُعوق نموّه، وهذا هو الحلّ الاستراتيجيّ طويل الأمد لكُلّ إشكاليّات حقوق المواطَنة المدنيّة والعدالة والسِلم الاجتماعيّين. [email protected]